في قاموسنا العربي لم تكن مفردة «الحرية» تحمل الشحنة الدلالية والتعبيرية التي هي عليها في اللغات الأوروبية، الفرنسية بالذات، التي تعلمها رفاعة رافع الطهطاوي حين قصد فرنسا واستقرّ فيها دارساً لعدة سنوات. وفي كتاب «العدالة والحرية في فجر النهضة العربية»، الذي صدرت طبعة ثانية له قبل شهور، ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية، ينقل مؤلفه عزت عبدالرحيم قرني عن المارودي قوله إن الحرية، في لغتنا، تعني «الضد القانوني لوضع العبودية»، وهو قول وجيه، فيما نرى، فأي مقاربة لموضوع الرق تحيل إلى مفردتي: الأحرار والعبيد، وإلى عبارات من نوع «تحرير الرقيق» من العبودية، وجعلهم أحراراً.
هنا مصدر الصعوبة التي واجهت الطهطاوي في سعيه لإيصال الشحنة الدلالية لمفردة Liberte الفرنسية إلى القارئ العربي الذي وجه إليه كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، هو الذي خشي أنه لو اكتفى بتعريبها إلى «الحرية»، فلربما أسيء فهمه، وأُخذ على محملٍ آخر غير الذي أراده لأكثر من اعتبار، بينها احتمال تفسيرها بأنها دعوة للخروج على ما هو مستقرّ من قناعات وعقائد وأفكار، وبتعبير عزت قرني مؤلف الكتاب الذي أشرنا إليه، فإن النظرية السياسية المستقرة عند مفكري الدولة العثمانية «لم تترك مكاناً لمفهوم الحرية».
كان لدى رفاعة الطهطاوي من الفطنة والنباهة ما يكفي للتغلب على هذه الصعوبة، من خلال «تطويع» اللغة والمفاهيم لإيصال ما أراد إيصاله، فاستخدم مفردتي العدل والإنصاف الشائعتين في لغتنا العربية، ليجعل منهما معادلاً لغوياً ومفاهيمياً لمفردة الحرية بالفرنسية، ليحقق غايتين، «تقريب مضمون الكلمة الإفرنجية إلى عقول قرائه قدر الاستطاعة»، أولاً، وثانياً: الدفع عن نفسه مقدّما «كل اتهام بالزيغ والضلال»، واستيراد الأفكار المضللة من بلاد الكفر، كما يفيدنا عزت قرني.
وبكلمات الطهطاوي نفسه، فإن ما يسميه الفرنسيون ويرغبون فيه، أي الحرية، هي «عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة»، مشيراً أيضاً إلى نص المادة الأولى في الدستور الفرنسي المعمول به يومها: «سائر الفرنسيين متساوون قدّام الشريعة»، ما يعني «أنّ سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون»، قبل أن يخلص إلى القول بأن «هذه البلاد حريّة بقول الشاعر: (وقد ملأ العدل أقطارها/ وفيها توالى الصفا والوفا)».
ألا تدعو فطنة الطهطاوي كتّاب ومفكري اليوم للتعلم منه فن إيصال الفكر الجديد، بما في ذلك المستقى من ثقافات أمم أخرى، بأسلوب يستوعبه الناس بدل الغرق في رطانة بلهاء؟
التعليقات