تواجه كوريا الجنوبية، التي يبلغ عدد سكانها 51 مليون نسمة (طبقاً لإحصاءات 2023)، وتعد رابع أكبر اقتصاد في آسيا، بعد الصين واليابان والهند، بقيمة 1.6 تريليون دولار، مشكلة خطيرة، تتمثل في تنامي معدلات الشيخوخة بسرعة كبيرة، مقابل تراجع معدلات المواليد بنفس السرعة تقريباً أو أكثر. ففي العام الماضي بلغ عدد المواليد الجدد 230 ألفاً فقط، وهو أدنى مستوى له منذ عام 1970. وهذا يعني أن البلاد لن تعرف ما يطلق عليه «معدل الإحلال» (تساوي عدد المواليد الجدد مع عدد وفيات المسنين)، وبالتالي، لن تعرف الاستقرار السكاني.

وطبقاً لخبراء علم السكان، فإن السبب يعزى إلى التحولات والطفرات الاقتصادية والصناعية الهائلة التي شهدتها كوريا الجنوبية خلال العقود الماضية، والتي ساهمت بدورها في تحسن مستويات المعيشة والصحة والوعي، وبما أطال في معدلات العمر من جهة (تحتل كوريا الجنوبية اليوم المرتبة الثانية عشرة على مستوى العالم لجهة المعمرين، بمتوسط عمر يصل إلى 82 عاماً)، لكنها في الوقت نفسه خلقت وضعاً تحبذ معه النساء إنجاب عدد أقل من الأطفال، أو عزوف الجنسين عن الزواج، من أجل تحقيق حياة مستقلة، ووظائف ومكانة أعلى في المجتمع.

ولهذا برزت كوريا الجنوبية كأقل بلد في العالم لجهة معدلات الخصوبة، والتي يبلغ متوسطها 1.1 طفل لكل امرأة، مقابل معدل عالمي يبلغ متوسطه نحو 2.5 طفل. ويكفي لمعرفة حدة المشكلة، أن معدل الخصوبة في البلاد كانت في خمسينيات القرن الماضي نحو 5.6 أطفال لكل امرأة، لكنه ظل يتراجع عاماً بعد عام، مع التحولات الاقتصادية، حتى وصل اليوم إلى المعدل المشار إليه.

وغني عن القول إن هذه الظاهرة الاجتماعية المتنامية، والتي يطلق عليها هناك اسم «جيل السامبو»، في إشارة إلى الأجيال الجديدة العازفة عن ثلاثة أشياء: العلاقات العاطفية والزواج والإنجاب، تمثل تهديداً لأمن واستقرار البلاد، وديمومة الإنتاجية والنهضة الصناعية.

وفي هذا السياق، ترى وكالات الأمم المتحدة المعنية بالسكان، أن المجتمع الكوري الجنوبي سائر نحو الشيخوخة بمعدل أسرع من أي دولة متقدمة، مع توقعات بأن يصل متوسط عمر الفرد إلى 92 عاماً بحلول نهاية القرن الحالي، وأن يشكل من تزيد أعمارهم على 65 سنة، في ستينيات القرن الحالي، أكثر من 40% من إجمالي عدد السكان. بل إن الأمم المتحدة تتوقع انخفاض عدد سكان كوريا الجنوبية إلى 29 مليون نسمة بحلول عام 2100، وهو نفس تعداده في عام 1966.

لكن ماذا فعلت سيؤول لمواجهة هذه المشكلة التي تهددها؟

الحقيقة أنها تبنت خليطاً من سياسات اتبعتها دول آسيوية أخرى تعاني من نفس المشكلة، لكنها ليست بنفس الحدة، مثل تايوان وسنغافورة. وتتضمن السياسات الكورية الجنوبية إنفاق ملايين الدولارات سنوياً على برامج تستهدف التشجيع على الزواج والإنجاب، ومنها دفع 112 ألف دولار أمريكي للوالدين عن كل طفل يتم إنجابه، وتخصيص حساب للمولود يوضع فيه شهرياً 334 دولاراً لمدة أقصاها عامان، ومنح الأمهات إجازة عمل براتب لمدة ستة أشهر.

كما تعهدت الحكومة بتوفير المزيد من الإسكان العام، وتسهيل القروض المصرفية بفوائد منخفضة، وتقديم دعم حكومي لرياض الأطفال، بهدف جعل حياة من يقرر الزواج والإنجاب أيسر، وبالتزامن، قامت سيؤول بحملة حثت فيها القطاع الخاص والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، على المشاركة في علاج مشكلة انخفاض معدلات المواليد والخصوبة.

على أن بعض علماء الديموغرافيا، يرى أن هذه الحلول جربت لسنوات في دول أخرى، ولم تجد نفعاً، بسبب ثقافة الإدمان على العمل المنتشرة في المجتمعات الآسيوية، ومعها ثقافة منح الأولوية لمؤسسة العمل على حساب الأسرة، علاوة على أسباب أخرى تنفّر الفتيات من الزواج والإنجاب، مثل ارتفاع تكاليف المعيشة، وصعوبات الوصول إلى رعاية الأطفال، وعدم المساواة بين الجنسين في الوظائف والرواتب.

وهكذا، يمكن القول إن الخطوات والسياسات والبرامج والحوافز الحكومية التي تبنتها سيؤول، تحتاج، لكي تؤتي ثمارها، إلى أن يواكبها ثقافة مجتمعية جديدة، محورها الموازنة بين العمل والأسرة، فلئن كانت الحوافز المالية مهمة، فإن الأهم هو توفير بيئة عمل مرنة، تشجع على الزواج، دون خوف من تبعاته.