أراد «غوار الطوشة» أن يتكسّب على حساب البسطاء في مسلسل «صح النوم»، فافتتح محلاً لبيع الحمير المتطورة، فأتاه «ياسين» وهو «أعبط» شخصية بالمسلسل يسوق حماره ويطلب بدلاً منه نوعاً متطوراً، فاستعرض معه غوار «كتالوجاً» به أنواع الحمير ومسمياتها الأشبه بالطائرات الحربية قبل أن يقنعه بشراء أحدها بمبلغ كبير فوق حمار ياسين نفسه، وبعد يومين سلمه ذلك الحمار بألوان وأصباغ زاهية، بينما عَلَت وجه ياسين ابتسامة خيلاء كبيرة، وابتعد وهو لا يعلم أنه يركب نفس حماره القديم ولكن بأصباغ زاهية!.
إن الشركات المصنّعة للسلع تسعى دوماً لتغذية ورعاية ذاك الإحساس الدفين بداخل كل واحد منا بأن هناك دوماً شيئاً ناقصاً، بأنك لا ترتدي شيئاً ملائماً، لا تقود سيارة تليق بك، لا تلبس ساعة كما يلبس ممن هم مثلك، لا تحمل حقيبة تستحقها لتكون من ضمن النخبة، أنت حتى اللحظة أقل من غيرك ولابد أن تسعى حثيثاً لتدارك الأمر، وإلا بقيت خارج تلك الفئة المفترض أن تكون من ضمنها، وحتى يحدث ذاك الشيء فلابد أن تشعر بالخجل أو بأنك أقل من الباقين!.
لذا فالحل هو أن تشتري دوماً أشياء لا تريدها فعلاً وبالتأكيد لا تحتاجها، وبأحيان كثيرة لا تملك فعلاً مالاً لشرائها ولكن البركة في بطاقات الائتمان، لذا ليس بغريب أن يكون 80 % من الشعب الأمريكي تحديداً مديوناً حتى أُذنيه، إذ وصلت الديون المتراكمة على بطاقات الائتمان في الربع الأول فقط من عام 2023 إلى 986 مليار دولار، وأنا أذكر الأمريكان لأن مجتمعاتنا لا تُفصح عن مثل هذه البيانات وإلا لرأينا أمراً عجباً!.
فكلما شعر الفرد بالضياع أو قلة الاهتمام به يلجأ للشراء، وكأن الشراء هو حل لكل معضلة، ولنلاحظ إعلانات الأدوية أو مزيل حرقة المعدة مثلاً، إذ يبدأ المقطع بشخص يتلوى أو يعاني ألماً بموسيقى حزينة وغرفة شبه مظلمة، ثم ما إن تمتد يد من الخارج بالدواء السحري له حتى تعلو وجهه الابتسامة بمجرد تناوله وزوال الألم، وتزداد الإنارة بشدة من حوله مع موسيقى «فرايحية»، أو ذاك الذي لا يؤبه له، وبمجرد أن يضع عطراً معيناً حتى تشرئب إليه أعناق الحسناوات!.
الكثيرون ممن أدمنوا الشراء تم تغذية الشعور بعدم الثقة بالنفس وبسوء الاختيارات السابقة ورداءة وضع الحياة الحالية بعقلهم الباطن، لذا يبدو «ضعف الثقة» هو المحرك الأساسي ليشتري ملابس وأدوات تجميلية وحاجيات كمالية تجعله أكثر وسامة أو أهمية، وسيتبع ذلك بجلسات مكلفة أو ربما عمليات لتحسين مظهره الذي يُعزَّز دائماً من العيادات التجميلية ومن بها بأنه أقل مما يجب أن يكون عليه، ولا مانع من استغلاله بشكل «مزدوج» بسؤاله عن أصدقائه أو معارفه الذين قد يهتمون بمثل هذه الجلسات، وهو أمر لا يعدو أن يكون بحثاً عن ضحايا جدد بشعار: «عَرِّفنا على صديق لك واحصل على خصم 20 %»!.
أما الملابس وتحديداً النسائية فهي قصة نصب احترافية أخرى، فالإشعارات تصل باستمرار وتضيء لها شاشة الهاتف، «الثوب الذي أعجبك تم تخفيض سعره بنسبة 25 %، سارعي لاقتنائه قبل أن يسبقك غيرك»، أو وضع طعم لا يمكن رفضه بعبارة: «معطف جديد لا يليق إلا بامرأة رائعة مثلك ينتظرك»، أو يتم إرسال «كود خصم» استثنائي على منتجات معينة في التطبيق، و«سارعي لاستخدام الكود قبل انتهاء المدة»، حينها تكاد شاشة الهاتف تتحطم من سرعة ضغطات الأصابع فوقها لشراء ما لا تحتاج تلك السيدة، ولكن حتى لا «تضيع الفرصة»!.
يستغرب بعضنا بأن راتبه قد زاد بسبب ترقية ما، ولكن أصبح هذا الراتب «الأكبر» لا يكفيه كما كان يفعل الراتب «الأقل»، وسيلقي باللوم على التضخم وغلاء الأسعار المتزايد، لكنه لا ينتبه إلى أنّه أصبح يشتري سلعاً مشابهة لما اعتاد عليه ولكن من «ماركات» غالية، وليس ذاك غباءً منه، ولكنه قد غُذّي نفسياً بأن أهميته ومكانته ونظرة المجتمع له كفرد من فئات «النخبة» مقترن بهكذا ماركات وسلع، ومادام هذا الإنسان قد سلم عقله طوعاً لهذه الشركات وإعلامها الجارف، فإنه سيتخبط كثيراً في الديون قبل تخبطه في مسارات الحياة، يقول الممثل الشهير مورغان فريمان: «لا تشترِ حقيبة بـ400 دولار لتحصل على حقيبة فارغة، ولكن اشترِ حقيبة بعشرة دولارات لتضع فيها 390 دولاراً المتبقية، لا تُصبح مفلساً لتبدو غنياً»!.
التعليقات