يقع التخاطب والتفاعل بين الناس بوسائلَ مختلفة، لم يزل الناس يطورونها على مرِّ الأزمنة حتى صارت إلى ما عليها الآن من التنوُّع والثراء والتطور، وتُستخدمُ بواسطة تلك الوسائل لغاتٌ متنوعةٌ ومصطلحاتٌ متباينةٌ، يختصُّ بفهمها أهلها، ولا يشاركهم غيرهم في ذلك، لكن التواصل الأدقَّ إنما هو بالقلوب، فهي التي يمكن تبادل الرسائل بينها بغضِّ النظر عن اختلاف اللغات، وتباين المصطلحات، والرسائلُ المتبادَلةُ بواسطتها عالية الموثوقية؛ لأن القلوب مَقَرَّات الحقائق والقناعات، وليست كاللسان والجوارح التي تُبتذل في التظاهر بما لا حقيقة له؛ ولكي تتبادل القلوب الرسائل تحتاج إلى رفع الحُجُب بينها، ومعلومٌ أن لها أبواباً عليها مغاليقُ، ولها مفاتيح، وإذا أغلقت كانت محكمة الإغلاق، ولم يسهل التسلق إليها من ورائها، وإذا جيء إليها بمفاتيحها الحقيقية انفتحت، ومن أهم مفاتيحها الابتسامة الصادقة الخالية من التصنُّع، فهذه بمثابة الْمُزْنَةِ التي تُمطرُ القلوب سعادة، وتملؤها حبوراً ومودة، وهي أوثق من حمل رسائل القلوب؛ لإيصالها بكل شفافيةٍ وموثوقيةٍ، فاتصاف الإنسان بطلاقة الوجه والبشاشة من أهم وسائله إلى القلوب، ولي مع الابتسامة الصادقة وقفات:

الأولى: لا يعجز أيَّ إنسانٍ أن يبتسم في الوجوه أحياناً؛ استجابةً لساعةِ مرحٍ حان وقتها، أو مجاملةٍ لمن يقتضي الحال أن يجامله، أو خديعةٍ لمن يوهمه من نفسه غير ما هو عليه؛ وذلك لأن الإنسان المتصنِّع يمكنه أن يُظهر خلافَ ما يُبطنُهُ في كل مجال، وبوسائل متعددة، وقد يكون بارعاً في ذلك إلى أقصى ما يُمكنه من حدٍّ، لكنه لا يلتبس بالصادق المخلص عند أهل النظر والبصيرة، فهناك اختباراتٌ تكشف أمره، ومنعطفاتٌ حادةٌ في طريقه لا يُمكنه أن لا يتعثر عند محاولته تخطِّيَها، والصادق يتعامل معها بكل أريحيةٍ وانسيابٍ؛ لأنها لا تحتاج إلا إلى ما هو مركوزٌ في سجيته، ويتعاطاه بداهةً بلا أدنى تكلفٍ واستدعاءٍ، والاتصاف بطلاقة الوجه الصادقة من الاختبارات الصعبة التي نُميز بها بين صاحب الخلق الحسن ومن يتظاهر بذلك؛ فإن الصادق يُصاحبُ البشاشة بلا تكلفٍ، ويبذلها للعامة والخاصة، ولا يلتمس من خلالها مصلحة ولا لفْتَ نظر الناس إليه، بل من خواص أهل الأخلاق السمحة من يتحلى بالبشاشة في المواقف التي من شأن الإنسان أن ينزعج فيها؛ لخوفٍ أو شدةٍ أو نحو ذلك، فبعض الوجوه لا يعرف العبوس والكآبة ولو في أحلك الظروف، ومعلومٌ عن العرب التمسك بقيَمِها ونُبْلِها ولو في صفوف القتال، ومن تلك القيم طلاقة الوجه وابتسامة الثغر، كما قال الشاعر:

وقفتَ وما في الموت شكٌ لواقفٍ

كأنك في جفْنِ الرّدى وهو نائمُ

تمرّ بك الأبطالُ كلمى هزيمةً

ووجهُك وضّاحٌ وثغرُك باسمُ

الثانية: طلاقة الوجه والابتسام في وجوه الناس من الأخلاق التي رغَّب فيها الإسلام، ففي حديث أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ)، أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» أخرجه مسلم، وهذه صدقةٌ لا تستنزف رصيد الإنسان في البنك، ولا تُلحق عجزاً بميزانيته، فمن الحرمان أن يعجز عنها، وهي من الصنائع التي لا ينساها من أُسْديَتْ له، لا سيما إذا جُعلت عادةً يُتلقى بها، فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ رضي الله تعالى عنه قَالَ: (مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي) متفق عليه، فها هو يتذكرُّ هذا الصنع الحسن، ولا يُمحى من ذاكرته مع طول الوقت، ولا عجب من ذلك فهي رسالةٌ من قلبٍ سليمٍ يتلقاها القلب، فلا يغفل عنها بعد ذلك.

الثالثة: الأثر الإيجابي لطلاقة الوجه أوسع من كونك تُسدي بها كرامةً إلى من تلقاه بها، بل هي ضمادٌ لجراحات النفوس، فكم من مكروبٍ فُرِّجت كربتُهُ؛ لأنه لاقى ذا بشاشةٍ، فاقتبس من نور بشاشته ما أضاء له ظلمات كربته، ومن آثارها الإيجابية أن المتحَلِّيَ بها إذا حلَّت به نائبةٌ من طوارق الليل والنهار ظلَّ متماسكاً ثابت القلب، طلق الوجه، فكم رأينا من يهشُّ للناس ويُؤانسهم وهو على سرير مرض الموت، وهذا يُخفف عليه المأساة؛ فإن النفس إذا اطمأنت وصمدت أمام الصِّعاب هان عليها ما ألمَّ بها، وخفَّف عليها مرارةَ الألم امتزاجُهُ بحلاوةِ الطمأنينةِ والانشراح، كما أن طلاقة وجهه تُخفّف الحزنَ عن أهله، فإذا أظهر البِشْرَ أعانهم ذلك على الصبر، كما قال الشاعر:

اصْبِرْ نَكُنْ بِكَ صَابِرِيْنَ فَإِنَّمَا

صَبْرُ الرَّعِيَّةِ بَعْدَ صَبْرِ الرَّاسِ