لم يعد في الأمر من شك في أن التقدم التكنولوجي والبواعث والدوافع المستدامة أصبحت ذات صلة بالعالم والعالمية من خلال تلك الآلة التي تقتحم تلك الكرة الرابضة بين أذنينا! ومما لا شك فيه أن لكل ذلك تأثيرا أضحى واقعا ملموسا نسعى له ويهرول إلينا، لكن القضية المهمة هي كيف يمكن التمكن من أدواتنا، وكيف يمكن السيطرة على أفعالنا التي هي في نهاية المطاف دواليب حياتنا التي تدور بدون توقف، والتي تترب عليها -أي على أفعالنا- تلك المقدرات التي تتحكم في الوجود الفعلي على ساحة واسعة من عالم لا حدود له؟

ومن خلال ما تدارسناه في نظرية البعد الخامس، تلك التي تتمحور حول الوجدان ومصباته ومدخلاته، حيث تؤدي بدورها إلى اتخاذ القرار. فاتخاذ القرار هو من أصعب المهام التي تحول الفرد منا من الشقاء للسعادة ومن السعادة للشقاء؛ في عملية ديناميكية تجعنا في نهاية المطاف في موقع المسؤولية.

فالاختيار مسؤولية كما أسلفنا، ولذلك نشأ المصطلح الفلسفي (حمى الاختيار) لما له من واقع ثقيل على النفس وعلى مقدرات الفرد منا، ومن هنا وجدنا في آلية بحثنا المشار إليه ما لوظائف المخ من مهام في هذا الشأن بحسب توازن ما يسمى بـ(الأميجدالا Amygdala) والتي تعني باللاتينية حبة اللوز لأنها تشبهها، وهي إحدى ركائز اتخاذ القرار ومكمن العاطفة والوجدان، ومن هذا المنطلق اتخذنا مصطلحا جديدا أطلقنا عليه (علم اقتصاد الوجدان) الذي نأمل أن يكون مادة للدراسة والبحث لكي نتمكن من علم إدارة هذا الجهاز الخطير الذي أضحى ملزما في يومنا هذا، وخاصة بعدما ساد في الآونة الأخيرة مصطلح القوى الناعمة حتى ملأ الأرض ضجيجا كمنهجية لخطاب فني وإعلامي عالمي جديد، وهو حقيقة مصطلح ظهر مع ظهور مشكلات الشرق الأوسط ومع الثورات العربية نحو التغيير وخاصة بعد حرب العراق، إلا أنه بات مصطلحا لزجا لم يكتسب صلابته لعدم فهم مقتضياته، لكننا نضع أمام أعيننا هذا العلم من (اقتصاد الوجدان) لترتيب الذهنية الناقدة من حيث جعل التوازن الدائم في تلك الفاعلات التي تعد عاملا رئيسا في عملية اتخاذ القرار، والتي تتكئ على التوازن النفسي المرتكز على استقرار الوجدان نفسه وهو الداعم الأكبر لقوة اتخاذ القرار.

وإذا ما دلفنا إلى ما أسميناه اقتصاد الوجدان فهو علم آلياته (التسرب الانفعالي، والانزلاق الوجداني) عبر تسرب مجازي عن طريق الحواس الخمس ليثير المتعة في بداية الأمر، فالمتعة هي أمر مهم، فهي مفتاح سر للوزة (الأميجدالا) عن التلقي. وقد بينت حيثياتها في نظرية البعد الخامس التي تهتم بهذا الأمر في تلقي أي خطاب، وخاصة الخطاب الإعلامي ثم يليه تلك الخطابات التي تتسرب رسائلها عبر الفنون والآداب، وهذا الأمر يحتاج منا لإنشاء مشروع جديد؛ والذي شرعت في كتابته في كتابي الجديد (علم اقتصاد الوجدان) لكي يتسنى لنا استثمار نظرية البعد الخامس تلك في مقتضيات الخطاب العام الذي وجب تغييره مع مكتسبات العالم الجديد.

إن هذا العلم الجديد يتخذ قوته من ثلاثة محاور تعمل على تغيير الأفكار التي نريد تغييرها، وهذه المحاور أو الارتكازات هي الاتكاء على (العقيدة، السرد، وإثارة الخيال) في جميع مرسلات الخطاب لكي تتمكن القوى الناعمة من أدواتها التي باتت عاجزة عن إدارة العقول أمام تيارات ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي الحر بلا وازع مهني أو أخلاقي في بعض الأحيان.

فمصطلح القوى الناعمة -الذي لم نعرف كنهه حتى الآن- هو ما يجب أن يهدف إلى استخدام الوجدان والسيطرة عليه؛ ولكنه لم يهتدِ إلى الوسائل العلمية التي تعمل على هذا التسرب، فبات مصطلحا لزجا مطاطا بالرغم من قيام كثير من الفنون ومن الخطاب العالمي لتفعيله، يقول أحد المنظرين الغربيين وهو من أطلق هذا المصطلح: "لم تنجح قوة أميركا الناعمة أبداً في اجتذاب أسامة بن لادن والمتطرفين.. فالقوة العاتية فقط هي الجديرة بالتعامل معه".

فالبالرغم من أنه من طرح هذا المصطلح وهو من ابتدعه يقول: "بعد انتهاء الحرب في العراق تحدثت عن القوة الناعمة -وهو مفهوم من ابتكاري- أمام مؤتمر في واشنطن شارك جيش الولايات المتحدة في رعايته. وكان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أحد المتحدثين أمام المؤتمر. واسمحوا لي أن أورد هنا قسماً مما ورد في تقرير صحفي عن المؤتمر: "أنصت كبار القادة العسكريين بتعاطف، ولكن حين سأل أحد الحاضرين رامسفيلد عن رأيه في القوة الناعمة، أجاب قائلاً: "لا أعرف ماذا يعني هذا التعبير". ثم يقول: "القوة الناعمة هي القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. وهذه القوة تعتمد على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة. وإذا تمكنت من إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد، فلن تضطر إلى إنفاق الكثير بتطبيق مبدأ العصا والجزرة لتحريك الآخرين في الاتجاه الذي يحقق مصالحك".. ثم يقول مكتب الدراسات للقوى الناعمة بلبنان في أحد إصداراته: "رغم أن مقولة الحرب الناعمة أصبحت مادة تدرس في كلية الدراسات العسكرية للقوات الأميركية تحت عنوان NPS ورغم أنها استراتيجية رسمية للإدارة الأميركية تحت عنوان "المكافحة الناعمة لحركات التمرد" تحدث عنها انتربرايز وأن هذه الإستراتيجية مطبقة على 300 ألف لبناني وفق بعض أرقام البرامج، فلا يزال البعض في ساحتنا ينكر وجودها، أو يشكك بمدى فعاليتها في ضرب وزعزعة جبهتنا".

إن الشراك الأول لاصطياد الوجدان والتسرب إليه عبر تلك المحاور الثلاثة هو إحداث المتعة في الخطاب المرسل عبر ما ذكرناه في محاوره الثلاثة، لكي يتسرب بعد ذلك ما نسميه (الحقن تحت الجلد)؛ وهو المراد وصوله للوجدان لكي يُحدث اتخاذ القرار في نهاية الخطاب إذا ما أصبح ممتعا مع مهارات الإقناع، فقد بات جليا لنا تلك الحاجة الملحة في تربية الوجدان عن طريق علم جديد يهتم بذلك التسلل إلى عمقه لكي نعمل على محاربة كل الأفكار الضالة المدمرة للإنسانية وأحيانا لا أخلاقية، فاتساق الوجدان هو ما يعمل على السلام الدائم مع الذات ومع العالم وهو ناصية قوة اتخاذ القرار في نمط من السحر المشروع.