شكل قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل المجلس النيابي (الجمعية الوطنية) مساء الأحد، بعد فوز باهر لجوردان بارديلا رئيس حزب التجمع الوطني المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبن في الانتخابات الأوروبية، صدمة للوسط السياسي وللمجتمع الفرنسي.

فوز بارديلا كان متوقعاً بالنظر إلى الاستياء الشعبي ورفض غالبية كبرى من الشعب سياسات ماكرون، بعد سبع سنوات من الحكم في ولايتين متتاليتين.

موعد إجراء انتخابات تشريعية جديدة في تاريخ 30 حزيران (يونيو) و7 تموز (يوليو)، أضاف صدمة أخرى، فهو قريب جداً، وإعلان ماكرون يأتي قبل شهر من استضافة فرنسا دورة الألعاب الأولمبية وعشية مشاركته في قمة الدول الصناعية في إيطاليا يوم 13 حزيران الجاري. هذا الإجراء الذي يناسب بارديلا ولوبن اللذين يطالبان به منذ زمن، كان في ذهن ماكرون منذ فترة وجيزة، ومرده إلى أن ماكرون يريد تحميل الشعب مسؤولية اختيار من يحكم البلد بعد فوز اليمين المتطرف، مراهناً على فشل هذا اليمين في إدارة أمور البلد إذا تسلّم الحكومة.

حزب ماكرون، "النهضة"، الذي يرأسه وزير خارجيته ستيفان سيجورنيه ومرشحته لانتخابات أوروبا فاليري أيي حصل على 14,6% من الأصوات، فيما حصل بارديلا وحزب لوبن على 31,5 في المئة والاشتراكي رافاييل غلوكسمان على 13.9 في المئة في المرتبة الثالثة. والخطير هو رهان ماكرون على تسلم حزب لوبن الحكم إذا فاز في الانتخابات التشريعية مع بارديلا رئيساً للحكومة وهو في الـ28 من عمره من دون أي خبرة سياسية وإدارية، سوى أنه ماهر في خطاباته وتوجهه إلى الناس. ستتراجع أوروبا تراجعاً كبيراً خلافاً لما كان يطمح إليه ماكرون من مشروع بناء أوروبي سيادي مستقل وقوي. ومع تسلم لوبن الحكم بصداقتها المعهودة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سيمثل ذلك خطراً على أوروبا في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا التي تدعمها فرنسا وأوروبا. كما تتمثل خطورة رهان ماكرون في تهديد الوضع الأوروبي، وعزل فرنسا وتعطيل أوروبا وعرقلة وحدتها في وجه "العدو" الروسي.

على صعيد السياسة الخارجية، ينص الدستور الفرنسي على تسلم الرئيس العلاقات الخارجية والدفاعية، لكن يبقى السؤال إذا حصلت لوبن على الأغلبية في البرلمان الفرنسي وتسلم بارديلا رئاسة الحكومة، من سيكون وزير الخارجية الذي سيختاره بارديلا، وهل يمكن أن يطبق سياسات خارجية يرسمها ماكرون؟

في عهد الرئيس الراحل الاشتراكي فرانسوا ميتران شكلت حكومة التعايش اليمينية برئاسة الديغولي إدوار بالادور، وكان وزير خارجيته آلان جوبيه الذي أصبح لاحقاً رئيس حكومة الرئيس الراحل جاك شيراك. تميزت هذه الفترة بعلاقة احترام وود بين ميتران وخصمه السياسي جوبيه، وساد علاقتهما احترام متبادل بين شخصيتين مميزتين بذكائهما وثقافتهما وحنكتهما السياسية. ثم في عهد التعايش الآخر بين الرئيس الديغولي الراحل جاك شيراك ورئيس الحكومة الاشتراكي ليونيل جوسبان تولى الوزير الاشتراكي هوبير فيدرين الخارجية لمدة خمس سنوات، وتميزت أيضاً علاقته بالرئيس شيراك باحترام متبادل بفضل خبرته في مناصب عدة في عهد الرئيس ميتران.

لكن حتى في مثل هذه الظروف نشأ خلاف حاد بين شيراك ورئيس حكومة التعايش جوسبان خلال زيارة الأخير القدس وإصابته بالحجارة في جامعة بيرزيت بعدما وصف "حزب الله" بالحركة الإرهابية. آنذاك نجح وزير الخارجية هوبير فيدرين بتجاوز الخلاف، ولو أن العلاقة بين شيراك وجوسبان تدهورت تدهوراً كبيراً. في تلك الفترة تجنبت أوساط جوسبان إشراك وزارة الخارجية في الإعداد لهذه الزيارة، معتبرة أن لا حاجة للتنسيق مع الخارجية، علماً أن الوزير كان اشتراكياً من حزب رئيس الحكومة.

المختلف اليوم أن أياً من بارديلا أو مارين لوبن شخصية مميزة مثل جوبيه أو فيدرين للقيام بمهمة حساسة في فترة تعايش اذا فاز حزب التجمع الوطني، وخطورة التأثير على السياسة الخارجية واردة إذا فازت لوبن في الانتخابات التشريعية.

ويراهن ماكرون على أن الشعب الفرنسي سيخاف من هذا الاحتمال ويصوت لينقذ فرنسا من التطرف اليميني كما صوت في العهدين الرئيسيين الأخيرين خوفاً من وصول مارين لوبن إلى الرئاسة. لكن اليوم تختلف الظروف، فخطاب بارديلا لم يعد يخيف الفرنسيين، إذ ابتعد عن مواقف رئيسة الحزب التي كانت تريد الخروج من اليورو، قبل أن تتراجع لاحقاً عندما لاحظت أن ذلك غير محبذ شعبياً. ثم أرادت الخروج من الاتحاد الأوروبي لكنها عدلت أيضاً. إلا أنها تتحدث الآن عن إعادة الحدود بين الدول الأوروبية وتعديل نظام أوروبا.

إن الصدمة التي سببها ماكرون مرتبطة أيضاً بأنه منذ عدم حصوله على أغلبية في البرلمان غداة انتخابه في عهده الثاني، أصبح تعجيز سياساته سيد الموقف بين أعضاء البرلمان المعارضين له الذين عطلوا سياساته. تراجعت شعبيته تراجعاً كبيراً، خصوصاً أنه كثيراً ما ينقل عنه أنه لا يسمع أي استشارة وأنه سلطوي.. إلخ من انتقادات لا تعكس الواقع دائماً. والسؤال اليوم: هل يريد ماكرون تسليم زمام الحكم إلى التطرف اليميني ليظهر للشعب الفرنسي أنه يخطئ الاختيار إذا حصل ذلك بعد 7 تموز؟ إنها لمجازفة مهددة لموقع فرنسا.