بدأ الاستشراق طورَ أفوله منذ تاريخٍ بعيد يعود إلى نهايات سبعينات القرن العشرين. حصل ذلك بتأثير عواملَ عدّة تضافرت لإِفقارِ بيئته العلميّة التي نما فيها واستتبّ له الأمرُ والسّلطانُ المعرفيّ لزمنٍ مديد قارب القرنين. ومع أنّ أعمالاً كثيرة صدرت لكبار الدّارسين الغربيّين للشّرق والإسلام، بين بدايات عقد الثّمانينات الماضي وبداية القرن الحادي والعشرين، وكان قسم منها كبيرَ الفائدة، إلا أنّ كتّابَها كانوا، على الحقيقة، من مستشرقي سنوات الأربعينات- السّبعينات الذين انتهت بوفاتهم حقبة من المعرفة الغربية دعِيت باسم الاستشراق.
وفي اللّحظة التي كانت مجتمعات الغرب وبيئاته السّياسية والأكاديميّة تستغني فيها عن الاستشراق وعن خدمات المستشرقين، فتكُفّ عن تزويد بيئاتهم بالموارد التي بها تتغذّى أعمالهم، كانتِ الحاجة إلى عمل المستشرقين تتناقص، بالتّدريج، في العقود الأخيرة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة ودوائرها الثّقافيّة والأكاديميّة، بعد أن ارتفعت الأسباب التي كانت تدعو إليها في ماض ليس بعيداً تماماً.
لا يخامرُ دارسَ الاستشراق شكٌّ في أنّ أفوله تولَّد من تأثير عوامل عديدة: معرفيّة وسياسيّة وجامعيّة، متفاوتةِ الأثر. وقد يُخْتَلَف في شأن بعضها أو يُتّفَق، لكنّ الذي لا مِرْية فيه أنّ بعضَها يظلّ أَظْهَرَ تلك العوامل جميعاً، وقد يكون موْطنَ اتّفاقٍ بين الدّارسين. نشير، في ما يلي، إلى ثلاثةٍ من آكَدِها:
{ أوّلها: ما كان من تغيُّرٍ طَرَأ في مشهد المعرفة الغربيّة بالشّرق والإسلام، منذ نحو نصفِ قرن، وأثر ذلك في الاستشراق ومكانتِه في تلك المعرفة. بيانُ ذلك أنّ حاجة الدّول والحكومات الغربيّة وأجهزتها (الاستخبارات، الجيش، الجهاز الدبلوماسي...) إلى معارف المستشرقين تناقصت مع الزّمن لوفرة ما تُوفِّره لها الأجهزةُ ومراكزُ الدّراسات التّابعة لها من معلوماتٍ ومعارفَ تحتاج إليها سياساتها في بلدان الشّرق ومنها البلاد العربيّة والإسلاميّة. في الأثناء، كان المستشرقون يتعرّضون للتّهميش العلميّ في بيئاتهم الجامعيّة، وتوضَع بحوثهم ودراساتهم في منزلةٍ محطوطة مقارنةً بدراسات علماء الاجتماع والأنثروپولوجيا والسّياسة والتاريخ في مسائلَ أخرى غير تراثات الشّرق والإسلام. وأمام غَنَاءِ الغرب عن بضاعة المستشرقين المعرفيّة، كان يعتاض عنها بنوعٍ آخَر من «المعرفة» يقدِّمها دارسون غير متخصّصين، بالمعنى العلميّ الدّقيق، في دراسات الشّرق والإسلاميّات، مثل المستشرقين، ولا هم ضليعون في معرفة اللّغات القديمة وأصول الثّقافات ومصادرها الأساسية الكبرى، بل يملكون قدْراً قليلاً، وغالباً سطحيّاً، من المعرفة بتيّارات السّياسة المعاصرة في بعض مجتمعات الشّرق، ويُطْلَق عليهم، في الغالب، اسم خبراء. هكذا انتقل الغرب المعاصر، في طوره الأمريكي المستمرّ منذ الحرب العالميّة الثّانية، من لحظة المعرفة والعلماء إلى لحظة الخبرة والخبراء؛ أي من لحظة المعرفة الجامعيّة، ذات التّقاليد الأكاديميّة العريقة، إلى لحظة «خبرة» يقدّمها موظّفون في مراكز دراسات تابعة للجيوش وأجهزة الاستخبارات ووزارات الخارجيّة! ولقد مُكِّنت هذه الخبرة من أن تزيح، مع الزّمن، معرفة الاستشراق من المشهد.
{ ثانيها ينتمي إلى إرادة التّحرر الثّقافيّ لثقافات الشّرق من الغرب، التي أفصحت عنها النّخبُ الثّقافيّة والعلميّة التي تشبّعت بقيم حركات التّحرّر الوطنيّ في بلادها. إنّ التّحرّر الثّاني للشّرق من الغرب عَنَى، عند هذه النّخب، تحريره من الهيمنة الثّقافيّة الأجنبيّة. وهذه لا تتجسّد في هيمنة اللّسان الأجنبيّ وثقافتِه، فحسب، بل في هيمنة سرديّته الاستشراقيّة في مجتمعات الشّرق وما ترتَّب عنها من تبعيّةِ فكرِ نخب الشّرق للمسلّمات التي رسَّخها المستشرقون وأعاد تلامذتُهم الشّرقيّون إنتاجها والدّفاع عنها. وفي حالة الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، يُلْحَظ جَهْد كبير مبذول في سبيل التّحرُّر من الرّوايات الاستشراقيّة، من جهة، ومن الاعتماد الكامل على عمل المستشرقين لمعرفة تراثنا من جهة أخرى. ولقد أثمر الجَهْدُ ذاك استعادةَ العرب والمسلمين تراثَهم بأنفسهم، والانكباب العلميّ عليه قصد معرفته وصولاً إلى إعادة إنتاج سرديّةٍ أخرى عنه وكَسْرِ احتكار السّرديّة الاستشراقيّة. والحقُّ أنّه منذ ثمانينات القرن الماضي ما عاد الاستشراقُ مصدَرَ المعرفة بالإسلام، في الفكر العربيّ، بل صار محضَ مرجعٍ يُرْجَع إليه عند الاقتضاء؛ فلقد صار الوعيُ العربيُّ إلى حالٍ يجد فيها نفسه متحرّراً من كلّ وصايةٍ معرفيّة.
{ أمّا ثالثُها فعلى علاقة بالتّأهيل العلميّ للمعرفة العربيّة الإسلاميّة لتراث الإسلام على النّحو الذي يستقيم به أمرُها، والذي تستقلّ به عن اتّباع المأثور الاستشراقيّ الذي درجت عليه منذ ميلادها الحديث في القرن التّاسع عشر. وما من شكّ في أنّ خَطّ التّطوّر اتّجه صعوداً منذ اللّحظة التي كتب فيها محمّد عبده وفرح أنْطُون حتّى اليوم، فتراكمت مكتسباتٌ على الطّريق، وصقَلَتِ التّجارب والدُّربة ورياضة الفكر على ارتياد البعيد، معطوفةً على انتهال مناهج الدّرس من مناهلها، القدرةَ على البحث المسلَّح بالأدوات والموارد المنهجيّة. كان واحداً من أسباب تَفَوُّق المستشرقين امتلاكُهم مناهجَ درسٍ مختَبَرَة في ميادين معرفيّة شتّى في الغرب ويجهلها العرب والمسلمون الذين ربيَ أكثرُهُم على المناهج التّقليديّة: مناهج الاجترار والشّرح والاختصار. اليوم، ما عاد أحدٌ يماري في أنّ المعرفة العربيّة الإسلاميّة للتّراث والحضارة تحرّرت من هذا العائق، وباتت تحْتاز مواردها المنهجيّة الحديثة حيازةً موكَّدة. وهذا ما كان في أساس انصراف الفكر العربيّ إلى دراسة تراثه بعيداً من مسلّمات الاستشراق.
التعليقات