من الطبيعي أن تتغير الخطابات التربوية والاجتماعية والثقافية بين فترة وأخرى، لا سيّما إذا اتسمت المرحلة بالغنى الفكري والفتوحات العلمية والفكرية المؤثّرة، وقد تغيّر الخطاب المشار إليه في العقود السابقة، فمن المفكرين والمراقبين المثقفين والاجتماعيين من أطلق على مرحلة التسعينات أسماء مثل الثورة التكنولوجية، أو ثورة المعلومات والاتصال، وقبلها كانت تُسمّى المراحل بسيادة الخطاب السياسي، مثل المرحلة الاشتراكية أو المرحلة القومية، وسُمّيت العصور أيضاً وفقاً للمستوى المعرفي والإنجازات البشرية، مثل عصر النهضة، وعصر الانحطاط، وعصر القطب الواحد، أو عصر تعدّد الأقطاب، وهكذا.
وكان التغيير بطيئاً نسبياً، ولم يزلزل الثوابت ولا الخطابات التربوية والمجتمعية والثقافية. لكننا الآن، ومع التطوّر السريع والجذري والجوهري، الذي يعتقد بعضهم أنه وقع كالصاعقة، ونشهده منذ عقد من الزمان تقريباً، ما زلنا نستخدم المصطلحات ذاتها التي ظهرت في التسعينات، وهي ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال، إلا أن أثرها في الخطاب الشامل كان شبه جذري. وعلى سبيل المثال، لم يعد بإمكان أحد الحديث عن الغزو الثقافي، وملحقاته من حصانة معلوماتية ووطنية وأخلاقية، ولم يعد أحد يتحدث عن اللغة الأجنبية كأداة للتدريس، وما يتبعها من أثر في الشخصية الوطنية واللغة الأم والثقافية المحلية، ولم يعد أحد يتحدث عن التركيبة السكانية وتعدّد الجاليات وخطورتها، أو عن الخطر الذي تشكله التيارات الفكرية على الدين، وأمور أخرى مثل مصطلحات الإمبريالية والاستعمار والرجعية، وهنا لا نعني دولة بعينها، بل تكاد المسألة تشمل الأقطار العربية جميعها، التي تشهد تغيّراً في الخطابات وبنسب مختلفة، إذ لا يمكن الحديث عن الغزو الثقافي مع خطاب يتحدث عن التلاقح الثقافي والعولمة والتبادل المعرفي واحترام ثقافات الشعوب، ولا يمكن الحديث عن اللغات الأجنبية التي باتت لغة سوق العمل، مثل اللغة الإنجليزية، ولا الحديث عن التركيبة السكانية في ظل احترام ثقافات وتقاليد وعادات الشعوب وثقافة السلام، بل بات التنوع الثقافي فضيلة معرفية في المجتمعات المتقدّمة والمتطوّرة والآخذة بأسباب النمو والتنمية.
أما التيارات الثقافية التقليدية، فقد تلاشت بنسبة كبيرة، وحلّت محلها مصطلحات التعايش، باستثناء بعض التيارات الدينية المتشدّدة، أو الأفكار المتعصّبة المتزمّتة حتى لو لم تكن دينية، ووجدنا العالم يهبّ لمحاربة هذه الأفكار التي تريد فرض هيمنتها بوسائل عنيفة لا يقبلها الانفتاح العالمي الذي تحقّق في العقود الثلاثة الماضية. وقد انعكس هذا على أساليب وأنماط العيش والحياة، باعتباره يقع ضمن حقوق الإنسان الرئيسية.
ولو فصّلنا أكثر في مسألة تغيّر الخطاب سنجد أثره في الكتابات الأدبية والفنية، إذ لم تعد القصيدة الكلاسيكية أو العمودية التقليدية هي معيار الشعر، وانتشرت أشكال عديدة للشعر؛ مثل الشعر الحر وقصيدة النثر، بل انعكس الأمر على الفنون الجميلة، والفن التشكيلي بشكل خاص، من حيث أهمية الإطار وتكسيره، وصرنا نرى أعمالاً فنية في الشارع وعلى أرضيات الصالات الفنية، أما المسرح، فقد تعرّض لثورة كبيرة أيضاً، ولم تعد الخشبة التقليدية هي المكان الرئيسي لعرض المسرحية، بل صار بالإمكان مشاهدة مسرحية في الهواء الطلق، ما أطلق العنان للتجريب، وهذا التجريب طال كل أشكال التعبير والمدارس الفنية، وفرض هذا التغيير مصطلحات جديدة في النقد الفني والأدبي.
ومن السهولة بمكان العثور على أسباب تغيير الخطاب، وربطه بثورة تكنولوجيا المعلومات، وهناك من يذكر أيضاً مصطلح انفجار المعرفة، وبناء عليه، انتشرت مصطلحات مجتمع المعرفة، المرتبط بتغيير وسائل الإنتاج، وهذا ما يتماهى مع النظرية الاشتراكية التي تقول إن تغيير المجتمعات يتم عن طريق تغيير وسائل الإنتاج وأنماط الملكية.
لقد حدثت هذه الثورات التي هزّت المجتمعات هزّاً وقلبت بعضها رأساً على عقب، لكنها لم تُحدث ثورة في التعليم أو في المناهج التعليمية، أو وسائل التعليم أو الخطاب التعليمي بشكل خاص، فالمناهج التعليمية، أو بعضها، قد تغيّر، وواكب الثورات التكنولوجية، لكن ليس بالسرعة التي تطوّرت فيها التكنولوجيا والتقنيات.
لا أتحدث عن العالم المنتج للثورات التكنولوجية، ولكن عن العالم المستقبل والمستهلك لتلك التكنولوجيا ولم يصبح صانعاً لها، وعدم المواكبة السريعة للتطور التقني خلق فجوة في الجودة التعليمية، وفي مستوى التطوّر في المناهج، وهذا نجده في البيئة الواحدة، أو الدولة الواحدة، فليست كل المؤسسات التعليمية تمتلك مناهج متطورة مواكبة للتطور العلمي في مجال البرمجيات والتقنيات، وينطبق هذا على المدارس الحكومية والخاصة. ومن ناحية أخرى، نجد الفروقات بين الهيئات التعليمية والإدارية، ونجدها في داخل كل هيئة، أي هناك فروقات فردية داخل المؤسسات التعليمية، وينعكس هذا على تحصيل وطبائع المتعلّمين، ما يثير نقاشاً بين أولياء الأمور، وقد يحدث بلبلة فكرية وثقافية بين الأسرة والمؤسسة التعليمية.
أعتقد، وبنظرة واقعية، لا نكاد نجد مؤسسة تعليمية في العالم تواكب الثورات التقنية، إما بسبب تقدّم التكنولوجيا على المؤسسة التعليمية، وإما بسبب وجود تيارات محافظة.
ومهما يكن من أمر هذه الإشكالية التعليمية، فإن مواكبة التطور ضرورة حتمية للمؤسسة التربوية والتعليمية، كي لا تحدث فجوة بين المخرجات التعليمية والمجتمع، أو سوق العمل، أما الكيفية فتعود للمخططين التربويين الاستراتيجيين.
التعليقات