معيارُ التفرقةِ بينَ الصواب والخطأ هو المعيار الدقيق الذي يظهر به ما يستحق أن يُتمسَّك به، وما يستحق أن يُنبذَ وراءَ الظُّهور، ومن يستحقُّ أن يُعبأَ برأيه، ومن ينبغي أن لا يُغترَّ بزخارفِ قوله، فينبغي أن يجتهد الإنسانُ في معرفته؛ ليكونَ على بينةٍ من أمره، ومن هذا المنطلَقِ كانت للعلمِ مكانته التي لا تخفى على ذي بصيرةٍ، وقد أكّدَ ديننا الحنيفُ هذه الأهمية بدلائل متكاثرةٍ أولُها استهلال الوحي إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم بجملة: (اقرأ)، وتلكم الجملةُ النيِّرةُ التي لم تزل مشجّعةً للأمة على التعلُّم والقراءة والفهمِ، وقد اتفقت العقول على الاعتراف بفضل المعرفة وكراهة الجهل، حتى إنَّ كثيراً من المتصفينَ بالجهل ليتأذى بوصفه به، مع إيقانه بأنه وصفٌ له، ولو نحله الإنسانُ وصفَ العلمِ محاباةً لفرِح بذلك مع إدراكه أنه ثوبٌ مُعارٌ إعارةً غير شرعيةٍ ولا واقعيةٍ، ومن أهمِّ منافعِ المعرفةِ وأشملِها كونُها تحملُ العارفَ على الاستئناس بالصواب والمصلحة والإقبال عليهما، كما أن أكبر عيبٍ للجهل أنه يُغري المتلبِّسَ به إلى رفض الحقِّ والزهدِ في المصلحةِ، لا لسببٍ سوى ضيقِ مداركِه عن إدراك الخيرِ فيما أعرض عنه، ولي مع أنس العارف، ووحشة الجاهل وقفات:

الأولى: الشك والتردد من آثار نقص المعرفة، ولا سبيل معهما إلى ركون النفس إلى اعتقادٍ واطمئنانها به، ومواظبة الجوارح في عملٍ وإتقانها له، وانطلاق اللسان في إقرارٍ لا تشوبه عثرات، فهذه أركان الإقبال على المصالح، وهي مضادَّةٌ للجهالة والشك والتردد، ومعلومٌ أن الإنسانَ لا غنى له عن الإقبال على مصالح دينِه ودنياهُ، فإن لم يعرف ما يطلب فيهما لم يجتهد في الطلب ولم يستمرَّ فيه؛ ولهذا لما وعد الله من أطاعه أن يدخلَه الجنةَ دار الكرامةِ، وصفها بما يجعلُ العابدَ في بيّنةٍ مما يرغب فيه، ولما توعَّد العصاةَ بأنَّ مصيرَهمُ النار دارُ الخزيِ والهوانِ وصفها بما يجعل المؤمنَ يُدركُ سوءَ عاقبةِ ما يتفاداهُ، وفي الطرفِ المقابلِ لا تخفى على دعاةِ الفرقِ والأهواءِ أهميّةُ كون الإنسانِ مدركاً لما يطلبُ، فلا يدخرونَ جهداً في تزيينِ باطلهم في النفوسِ، واستدرار قناعاتِ الناس به، وهم يسلكون في ذلك أسلوبَ الترغيب والترهيب، وحملُ الناسِ على كراهة المصلحة وحب المفسدةِ منهجٌ شيطانيٌ، فالشيطانُ أسوةُ هؤلاءِ المضللين، ومعلومٌ ما له من الوسوسة في الصدور وزخرفة الباطل وتشويه الصواب، والتحريض على مضادَّةِ أوامرِ الله تعالى، ولو كانت معقولةَ المعنى واضحةَ المنفعةِ، كما قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا).

الثانية: معرفة الحقِّ لا تقتصر على تخصصٍ علميٍّ، بل العالمُ الرباني، والمقتدي به، والموقن بما يجب عليه الإيمان به بشكل جازمٍ مستعيناً بفطرتِه وما سمع من الحقِّ وما يرى من الآياتِ الكونية، كل هؤلاء من أهل المعرفة بالله تعالى، وهذه المعرفة رصيدٌ مباركٌ يحفظ الله تعالى به العبدَ من المزالق، فقد وفق الله تعالى العارفين للتبصُّرِ والاهتداء، فلا يقعون في التخبُّط الذي يقع فيه من لا يلتمس المعرفة، ولا يرفع لها رأساً؛ ولهذا لما انفتح باب الابتداع واتباع الهوى على الأمةِ ثبّتَ الله أهل المعرفة من الصحابة ومن تبعهم بإحسانٍ، ومن سار على دربهم، فلم يَغْترّوا بما يلهجُ به أهل الهوى والبدعةِ ودعاةُ الفرقةِ، ولم يلتفتوا إلى ما ظهر عليهم من المبالغةِ في العبادةِ والتظاهر بزِيِّ النسكِ بشكل بالغ الصرامةِ؛ وذلك لأن تلك المظاهر مناقضة لما استقرَّ عند جماعة المسلمين من ثوابتِ الدينِ، ومبادئ التماسك المجتمعي، وهذا الاختبار الذي نجح فيه أهل المعرفة ومن حذا حذوهم فشل فيه من لا تهمه المعرفة، ولو كان محباًّ للخير على سذاجة فيه، فاغترَّ بما رأى وسمع من تلك الفرقِ.

الثالثة: مما ابتليَ به الناسُ في هذا العصرِ الحكمُ على الآخرين، وعلى المواقف والأحداث، بحجة التعليق والمناقشة وإبداء الرأي، والحكمُ مسؤوليةٌ لا ينبغي الاستهانة بها؛ لأنها نوعُ شهادةٍ، والأصل في الخوض في مثل هذا أن لا يُتعاطى إلا لحاجةٍ تقتضيه، وإذا اقتضته مصلحةٌ دينيةٌ، أو دنيويةٌ فإنما يسوغُ لأهل المعرفة، كلٌّ بحسب مجال معرفته، فما يحكم فيه فلانٌ بحكم خبرته، قد لا يحكم فيه فلانٌ آخر، وإن كانت له خبراتٌ في مجالاتٍ أخرى، وقد تمخَّضَ عن العشوائية في الأحكام تطاوُل البطَّالين على المنجزين، ومحاولتهم التأثيرَ على سيرِ الأمورِ النافعةِ، فتجدهم يُقلِّلُون من شأنِ كلِّ ما يحفظُ للناسِ دينَهم ودنياهم من الثوابتِ الشرعية، والتئامِ صفِّ المجتمع على قيادته، ويُرغِّبونَ في الضلال والبدعة والمفاسد الدنيوية، وقد يفترض أحدهم مكروهاً لا يهدِّد المجتمع، والناسُ في مأمنٍ منه، فيدغدغ مشاعرَهم بتخويفهم منه؛ محاولةً منه ليثير فيهم الرعب والقلق، ويدخلهم في دوامة الفوضى، فيجب أن يكون للمرء من المعرفةِ ما يُحصِّنه من ذلك الشرِّ.