ماذا عسى فرانسيس فوكاياما يقول اليوم أمام التطورات الحاسمة التي يشهدها العالم، بما فيها بلاده: أمريكا، وهو الذي كتب قبل عقود كتابه «نهاية التاريخ وخاتم البشر»، محتفياً فيه بنهاية التاريخ بانتصار الليبرالية الغربية وهزيمة الشمولية؟ كانت حقبة الحرب الباردة قد انتهت يوم كتب فوكاياما كتابه. انهار المعسكر الاشتراكي، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وانعطفت قوته الرئيسية، روسيا، نحو الرأسمالية.

هل حسب فوكايما يومها أن الغرب سرعان ما سيدخل في خصومة طاحنة مع روسيا التي لم تعد اشتراكية، وهي خصومة تكاد تفوق تلك التي كانت قائمة فترة ثنائية القطب؟ وهل حسب أن الصين التي أدخلت جوانب رئيسية من اقتصاد السوق في نهجها الجديد، سيعدّها الغرب «المنتصر» منافساً خطراً له ولهيمنته، في جانبها الاقتصادي خاصة؟ هل بوسع فوكاياما أن يجاهر اليوم بأن «جنّة» الليبرالية التي حسبها في متناول اليدين تكشفت عن وهمٍ كبير، خاصة أن الأمر لا يتصل بالمنافسة بين عواصم القوى الدولية الكبرى: واشنطن، بكين، موسكو، وإنما أيضاً بالتحولات الجارية الحاسمة داخل القارة الأوروبية، التي حين أقامت اتحادها الأوروبي كانت واثقة بأن تلك خطوة لا رجعة عنها، ولم يدر في الأذهان أن إحدى أهم دولها، أي بريطانيا، ستغادره وسط كرنفال من البهجة أحاط بهذا الخروج بوصفه نصراً، كأنها بلد نال استقلاله من هيمنة خارجية؟ لم يقف الأمر عند الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فها هو اليمين الموصوف «شعبوياً» يتقدّم في البلدان الأوروبية بشكل غير مسبوق، بل إنه أصبح حاكماً في عدد منها، وكان، قبل أسابيع، على بعد خطوة واحدة من أن يحكم فرنسا نفسها التي لا تقلّ أهمية ودوراً عن بريطانيا، ما يجعل التبشير بالنهاية المزعومة للتاريخ أضغاث أحلام بددتها الوقائع.

كثيرون، يومها، صدّقوا فوكاياما أكثر مما صدق هو نفسه، نقول ذلك لأننا نعرف أنه قام بمراجعات، حتى لو كانت خجولة، بدد فيها «اليقين» الذي أتى به في كتابه ذاك، الذي سوّقته الدعاية الغربية كما لو كان «مانيفستو» الليبرالية في صورتها الجديدة.

الإنصاف يقتضي التذكير بأن فوكاياما نفسه قال، ولو بعد أكثر من عقدين على أطروحته تلك، إنه لو قيض له أن يعيد كتابة «نهاية التاريخ»، من جديد لكان قد تحدث عن «تحلّل» النموذج الليبرالي، وهو نفسه النموذج الذي سبق له التبشير بانتصاره الحاسم والنهائي والذي لا عودة عنه.

المُغْفل، أو «المسكوت عنه» في كرنفال نهاية التاريخ هو البشر أنفسهم. جرى ويجري الحديث عن التاريخ كما لو كان شيئاً منفصلاً عن صانعيه، أي البشر أنفسهم، للدرجة التي توهمنا بأن التاريخ بدأ من تلقاء نفسه، وسينتهي من تلقاء نفسه.