تشير التطورات السياسية الحاصلة في معظم الدول الأوروبية، لاسيما في غرب القارة، إلى أن ثقافة تقاسم السلطة بين الأحزاب والتيارات السياسية الهادفة إلى الوصول إلى أعلى هرم السلطة، لم تعد مقتصرة على الدول التي تملك نظاماً انتخابياً قائماً على الأغلبية النسبية التي يضطر في سياقها المتنافسون إلى الوصول إلى تفاهمات سياسية لتشكيل حكومات ائتلافية، بل إن هذه الظاهرة باتت تفرض نفسها حتى على الدول التي تتبنى نظاماً انتخابياً قائماً على الأغلبية المطلقة، من منطلق أن الناخب الأوروبي أصبح يتخوّف من وضع كل بيضه في سلة واحدة، من خلال إعطاء تفويض كامل لتشكيلة سياسية واحدة، يمكنها أن تتخذ قرارات غير حصيفة من شأنها الإضرار بمصالح قطاع واسع من المجتمع.
وتوضِّح تجربة الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة، أن الفشل المتكرّر للنخب الحاكمة في تجسيد برامجها، والإيفاء بتعهداتها، يزيد من انقسام الناخبين، ويضاعف من شكوك المواطنين بشأن الحلول، السياسية والاقتصادي،ة المقدمة لهم، وبالتالي، فإن نتائج اقتراع 7 يوليو/ تموز الأخير، تعطي الانطباع بأن الأمر لا يتعلق فقط بحالة الاستقطاب الشديد بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، ولكن بوجود رغبة واضحة لدى الفرنسيين للخروج من هيمنة النظام الرئاسي شبه المطلق، الذي يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، وتجربة النظام البرلماني بهدف دفع النواب إلى قبول فكرة التوافق التي تفضي في نهاية المطاف إلى تقاسم حقيقي للسلطة، أسوة بما يحدث في دول أوروبية أخرى، مثل ألمانيا، وهولندا، وإيطاليا؛ بخاصة أن هذه التجارب تسمح بوصول اليمين المتشدّد إلى السلطة من دون أن تمنحه القدرة على الانفراد بالقرار السياسي، ومن ثم القدرة على تغيير قواعد اللعبة السياسية.
ويذهب آلان مانك في قاموسه حول السلطة، إلى أن الأحزاب ذات التوجه الاجتماعي الديمقراطي القريبة من اليسار الوسط، كانت تلعب حتى الآن في معظم الدول الأوروبية، دوراً رائداً في تقاسم السلطة، وفي تحقيق جزء كبير من الاستقرار السياسي، أما في فرنسا فإنه ورغم أن الحزب الاشتراكي كان قريباً من هذا التوجه، إلا أنه لم يتبنّ استراتيجية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية في أوروبا، كما أن الرئيس الفرنسي الحالي، ورغم أنه كان أقرب في قراراته السياسية من خيارات هذه الأحزاب، إلا أنه لم ينجح في اعتماد استراتيجيتها التوافقية، بخاصة أن الفرنسيين أخطأوا التقدير، عندما اعتقدوا أن الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية في طريقها إلى الزوال.
ومن الواضح أن الرئيس الفرنسي لم يضع في الحسبان أن الشعب الفرنسي بات متمسِّكاً بمكاسب دولة الرعاية، وبالتالي فإنه من الصعب على مؤسسات الدولة الفرنسية أن تتخلى عن جزء من التزاماتها الاجتماعية، من دون أن تدفع ثمناً سياسياً باهظاً، من شأنه تهديد استقرار الدولة والسلم المجتمعي.
إن النظام الاجتماعي الديمقراطي، كما يقول مانك، يُجسّد في سياق تجربة الأحزاب الأوروبية، لاسيما في الدول الاسكندنافية وفي ألمانيا وهولندا، الرهان القائم على مبدأ إعادة التوزيع، في صورته القصوى، للخيرات بالشكل الذي ينسجم مع قواعد اقتصاد السوق في سياق اتفاق ثلاثي بين الدولة، والنقابات، ورجال الأعمال، من أجل تحديد مراحل تقسيم المال بين المصالح العمومية، وبين كتلة الأجور، وبين الربح الذي يضمن استمرارية المنافسة الاقتصادية. ونجاح تجربة الحكم المعتمِد على ثقافة التقاسم وإعادة التوزيع، وعلى المبادئ الاجتماعية الديمقراطية في الدول الاسكندنافية وألمانيا، راجع إلى تأثير النزعة الكالفينية التي سمحت بتوفير سلاسة أكبر في تطبيق هذا النموذج مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى التي كانت دائماً في حاجة إلى تدخل الدولة لفرض مبدأ التقاسم، ولكن من دون وجود توافق حقيقي ما بين الأطراف الثلاثة المشار إليها.
ويغلب على الحالة الفرنسية في هذا السياق، الحضور الضاغط للدولة، وفي مقدمتها مؤسسة الرئاسة، وتتميز أيضاً برفض الدولة إشراك الفاعلين الاجتماعيين في اتخاذ القرارات المصيرية التي تهم المجتمع برمّته، كما تتميز النقابات في فرنسا بقربها التاريخي من الحزب الشيوعي، وبمطالبها الاجتماعية المتطرفة، التي غالباً ما يكون لها تأثير سلبي في الميزانية العامة للدولة؛ الأمر الذي يجعل الهوة، في فرنسا ما بين الأيديولوجيا والواقع، وبين البلاغة ومتطلبات التسيير، واسعة إلى حد كبير. ومن ثم فإن التراجع الكبير لدور النقابات في فرنسا أدى إلى ضعف تأثيرها في تسيير المؤسسات الاقتصادية، وفي توجيه خيارات الأحزاب، وقد قاد هذا التحول إلى وضعية وجدت فيها السلطة نفسها في مواجهة مباشرة مع قطاع واسع من الشعب، كما حدث مع احتجاجات السترات الصفراء.
يمكن القول في الأخير، إن المشاركة في إعادة تقسيم الثروة وفق المبادئ الاجتماعية الديمقراطية بين الشركاء، كما حدث في العديد من الدول الأوروبية، هو الذي شجّع النخب السياسية على القبول بمبدأ تقاسم السلطة، والوصول من ثم إلى حلول توافقية تحول دون السقوط في أزمات يصعب حلّها.
التعليقات