في أثناء رئاسة دونالد ترمب، حققت المؤسسة الأميركية مستوى غير مسبوق من الوحدة الآيديولوجية والتوافق - في البداية، في معارضة ترمب نفسه، ثم في احتضان الآيديولوجية التقدمية، المتمثلة في «الصحوة العظيمة» أو «الووكية»، التي بلغت ذروتها في الأشهر الأكثر سخونة من عام 2020. ومنذ ذلك الحين، بدأت الشروخ تنتشر عبر أنحاء هذا الصرح؛ ما أدى إلى تشتيت صفوف الجماعات والمؤسسات، التي بدت ذات يوم وكأنها تتحرك في خطوة واحدة. وتمثلت واحدة من خطوط الصدع هذه، في الانقسام بين ثقافة أكاديمية أكثر آيديولوجية، حيث بدت «الصحوة» أو «الووكية» راسخة، من جهة ومجالات الشركات والإعلام، حيث ضعفت قبضتها إلى حد ما، من جهة أخرى.
ويتضمَّن ذلك الانقسامات بين المانحين وإداريي الجامعات والناشطين التي كشفت عنها وزادت من حدتها هجمات «حماس» وحرب إسرائيل - غزة. وكذلك الصراع حول لياقة جو بايدن الصحية ومدى أهليته للترشح مرة أخرى، ودخلت النخبة الليبرالية والحزب الديمقراطي في حالة حرب مؤقتة، وظهرت فصائل يمينية جديدة داخل النخبة الأميركية.
إلا أنه الآن، ومع زيادة الدعم لترشح كامالا هاريس للرئاسة، يمكنك أن تشعر بجهود تبذل للتغلب على هذه الانقسامات، وإعادة التأكيد على إجماع المؤسسة الأميركية بوجه ترمب، واستعادة الوحدة التي كانت قائمة عام 2020، ووضع القوة الكاملة لما أطلق عليه نيت سيلفر ذات يوم «الكتلة نيلية اللون»، تحت تصرف المرشح الديمقراطي المفترض. ويعني ذلك المال: أي تدفق عشرات الملايين من الدولارات إلى خزائن الحزب الديمقراطي. ويعني كذلك نفوذ النجوم، سواء عبر التأييد الصريح أو مجرد الارتباطات: مثل أوليفيا رودريغو وجورج كلوني، وتشارلي إكس سي إكس وبيونسيه. كما يعني معالجات إعلامية ناعمة، بل وحتى تعديل اللغة غير الملائمة، على غرار ما فعله موقع «أكسيوس»، عندما صحح إشارة سابقة إلى هاريس باعتبارها «إمبراطورة الحدود» داخل إدارة بايدن، في خضم انتقادات المحافظين لدورها في سياسة الهجرة. ويعني إخماد أي فرصة لاشتعال صراع داخل الحزب الديمقراطي أو معركة داخل المؤتمر الانتخابي، مع محاولة إثارة حالة من الضجيج من كل زاوية، من الليبراليين إلى الجمهوريين السابقين إلى مستخدمي «تيك توك»، في محاولة لإضفاء سحر الوله بأوباما على ترشح هاريس.
أما العنصر المشترك بين جهود دعم كامالا وظاهرة عام 2008، فيكمن في أن إحدى الكلمات المفضلة لدى باراك أوباما: «الجرأة». ومع ذلك، فإن الأمر لا يتعلق هذه المرة بجرأة الأمل، بل بجرأة اليأس - الشعور بأن الأمل الوحيد في هذه الساعة المتأخرة لوقف ترمب هو تنحية كل الخلافات جانباً، ودفن كل الشكوك وتقديم هاريس للعالم ليس باعتبارها مرشحة فرضتها الظروف، بل باعتبارها مرشحة قادرة على إحداث تحول.
وهذا أمر جريء بشكل خاص، بالنظر إلى أن الكرب الذي أفلت منه الديمقراطيون تواً، والمحاولة المخزية من جانب الدائرة الداخلية لبايدن لدعمه عبر دورة حملة انتخابية أخرى، كانا في حد ذاتهما استجابة مباشرة لإجماع بين المراقبين السياسيين على أن هاريس مرشحة رديئة للغاية، والشخص الخطأ تماماً في مواجهة ترمب.
إن السرعة التي تحول بها هذا الإجماع لا ينبغي أن تكون مفاجئة تماماً؛ فقد شاهدنا للتو، بعد كل شيء، التفكك السريع لواقع ليبرالي شكّلت في إطاره مسألة شيخوخة بايدن، في أفضل الأحوال، مشكلة ثانوية تضخمت بسبب جهود «فوكس نيوز» والتضليل الجمهوري.
ومع ذلك، فإن الحقائق الأساسية التي جعلت هاريس تبدو وكأنها خيار مشكوك فيه لا تزال قائمة، فهي سياسية بنت حياتها المهنية داخل دولة ليبرالية، حيث ما يهم هو كسب تأييد نخب الحزب الديمقراطي والناخبين ذوي الميول الليبرالية، وليس الناخبين المستقلين ذوي الميول المحافظة الذين تحتاج إلى إقناعهم بها الآن. لقد أخفقت هاريس تماماً في مساعيها للحصول على منصب وطني عام 2020، ولم يجر إنقاذها وتصعيدها سوى بسبب متطلبات السياسة التقدمية في عصر جورج فلويد. وبصفتها نائبة للرئيس، لم تحرز هاريس نجاحات ملحوظة.
الآن، تحتل هاريس موقفاً غريباً بصفتها مرشحة مفترضة؛ ذلك أنها لم تنجح في أي من الوسائل التقليدية للصعود: فلم تفز في أي انتخابات تمهيدية أو مؤتمرات حزبية، ولم يتفق أي من كبار الشخصيات الديمقراطية على أهليتها للترشح. لقد تصالح الديمقراطيون مع ترشيحها، لكنهم يحاولون بذلك التكيف مع ما تفرضه الضرورة، وليس من باب تتويج منتصر أو مكافأة نجاح عظيم.
لقد دفعتنا هذه الضرورة إلى اختبار مزدوج، ذلك أنه فيما يتعلق بهاريس نفسها، فإنَّ السؤال يبقى ما إذا كانت قادرة على الارتقاء إلى مستوى الحدث، وتوسيع دائرة نفوذها بشكل أكثر فاعلية عن الرئيس الحالي، وإظهار المهارات التي يشعر حتى حلفاؤها بالقلق من افتقارها إليها.
أما المؤسسة التي تتجمع حولها، فإن السؤال هنا ما إذا كانت الجبهة المتحدة التي احتوت ترمب، لكنها فشلت في دفنه لديها قوة كافية متبقية، رغم انقساماتها، لتحقيق إنجاز عظيم يبدو غير محتمل حتى الآن: وهو جعل كامالا هاريس حقيقة واقعة.
* خدمة «نيويورك تايمز»
التعليقات