يتطلع أهل الفلك إلى يوليو على أنه ذروة الصيف دائماً، وسوف يتقدم أهل السياسة ليشاركوا أهل الفلك في التطلع إليه هذه السنة، لكن من زاوية سياسية مجردة.

هذا الشهر أبى أن يغادرنا هذا العام، إلا وقد رفع درجة سخونة الأحداث السياسية إلى ذروتها، فشهد آخر أيامه اغتيال إسماعيل هنية في طهران. ذهب الرجل ليحضر حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، وكان بعد حضوره حفل التنصيب على موعد مع صاروخ استهدفه بمحل إقامته فقتله ومعه أحد حراسه.

سوف يتقدم قيادي حمساوي ليشغل الموقع الذي كان يشغله هنية، رئيساً للمكتب السياسي لـ «حماس»، وسوف يقال الكثير عن اغتياله، لكن الشيء الذي لا بد أن يستوقف كل متابع لعملية الاغتيال هو توقيتها وربما مكانها.

وإذا كانت الحرب على غزة ستدخل شهرها الحادي عشر في السابع من هذا الشهر، فإن أملاً كبيراً كان يراود المنطقة في أن تصل هذه الحرب إلى نهايتها، لولا أن اغتيال هنية سيجعل الحديث عن توقفها نوعاً من الترف، حيث إن عناصر الحركة في غزة وخارجها مشغولون بالثأر.

صحيح أن إسرائيل لم تعلن مسؤوليتها، وصحيح أن هيئة البث الإسرائيلية أذاعت أن الصاروخ الذي استهدف هنية جاء من خارج إيران، ولكن الأصح أن علينا أن ننشغل بعواقب العملية على المنطقة عموماً، ثم على الحرب التي كان الأمل في توقفها يقترب، فإذا به يتبدد.

كان بنيامين نتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل، عاد قبل العملية بساعات من رحلته إلى الولايات المتحدة، ورافقه كلام عن قرب التوصل لوقف إطلاق النار في غزة، وعن تعديلات على مبادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن لوقف الحرب، ولكن الواضح لكل عين مجردة أن رئيس الوزراء إسرائيلي لا يرغب في إنجاح المبادرة الأمريكية، ولا يريد للحرب أن تضع أوزارها. نتانياهو كان متهماً منذ بدء الحرب بأنه يتعمد إفساد كل محاولة لوقفها، وبأنه يعطل كل جهد لإطفاء نارها، ولم يكن اتهام كهذا يأتي من خارج إسرائيل، أو من الفلسطينيين فحسب، بل تارة من جانب أهالي الأسرى الإسرائيليين، وثانية من جانب ساسة إسرائيليين يعارضون نتانياهو، ويرون أنه يواصل إطالة أمد الحرب.

نعرف أن قضايا جنائية ضده لا تزال منظورة أمام العدالة في بلاده، ونعرف أن جهات إسرائيلية كثيرة تدعو إلى التحقيق في أسباب وقوع هجوم 7 أكتوبر، ونعرف أن استئناف النظر في تلك القضايا ينتظر توقف الحرب، وأن التحقيق في وقوع الهجوم سوف يتهم مسؤولين في إسرائيل بالتقصير، وبكل ما يجيء بعد الاتهام بالتقصير من إجراءات وملاحقات.

وكان نتانياهو قال عند بدء الحرب، إن المساءلات عن وقوع الهجوم إياه سوف تطول مسؤولين إسرائيليين، وإنه هو نفسه سيكون من بين هؤلاء المسؤولين الذين ستستدعيهم جهات التحقيق. ومن يومها وهو يعمل على تأجيل المساءلات المرتقبة ما استطاع، ولم يكن يجد طريقة لتأجيلها أفضل من أن تظل نار الحرب على القطاع مشتعلة، ولا شك في أن اغتيال هنية سوف لا يضمن إبقاءها مشتعلة وفقط، ولكنه سيزيدها اشتعالاً على جبهتها الحالية داخل غزة وعلى حدودها، ثم على جبهات أخرى محتملة في أكثر من اتجاه.

ما أكثر ما هرب رئيس وزراء إسرائيل للأمام من قبل، وما أكثر ما فعل على سبيل النفخ في نار الحرب ما استطاع. وإذا كانت عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس سوف تمثل شيئاً بالنسبة له في مكانه، فهذا الشيء هو أنها ستكون بمثابة حلقة أخرى من حلقات هذا الهروب، غير أن السؤال كان ولا يزال كالتالي: إلى متى؟

التاريخ يقول لنا إن العنف لم ينتج في كل مرة إلا عنفاً، وقد تعبت هذه المنطقة وأرهقها عنفها الذي تتوالد أذرعه كأنها أذرع أخطبوط، فكلما انقطعت له ذراع نبتت ذراع جديدة، ولا أمل لمنطقة هذا هو حالها إلا في حكومة في تل أبيب تؤمن بالسلام وتسعى إليه، وما عدا ذلك جرى تجريبه وتبين بالدليل عدم جدواه، ثم تبين صواب القاعدة التي تقول إنك لا يمكن أن تفعل الشيء نفسه للمرة الثانية، ثم تتوقع نتيجة مختلفة عما كان في المرة الأولى.. ليس ممكناً أبداً ولا هو وارد.