وليد عثمان
يستحق الذين دفعوا، ويدفعون، أرواحهم ثمناً للحرب على غزة البكاء عليهم في كل وقت، ويستأهل الذين شتتتهم، وتشتتهم، وتضعهم على حافة اليأس أن تتواصل الجهود لتعويضهم ببعض معاني الحياة التي تُذبح كل يوم بأيدي التطرف السياسي والبحث عن خلاص فردي أو مجد متوهم.
العقلاء، والذين رأوا مبكراً مآلات ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي هم فقط الذين قدموا قراءة صادقة لما بلغه المشهد من تعقيد، ليس في غزة فقط، فمنها انطلق الشرر المتعاظم كل يوم والمهدد لمساحات أوسع من المنطقة التي تحيا قلق سيناريوهات الفعل ورد الفعل بشكل يغرقها في التفكير اللحظي ويقعدها، أفراداً ودولاً، عن الاستغراق في تفاصيل المستقبل.
من هنا تزداد أهمية الدعوة مجدداً لاستئناف المفاوضات بشأن الوضع في غزة، ليس فقط لأنه أصبح بشهادة القريب والبعيد صورة جلية للإبادة الجماعية بوصف الأمم المتحدة ومنظماتها وكل ذي عينين وضمير حيّ، لكن أيضاً لأن ارتدادات ذلك على المنطقة قد لا يمكن في لحظة السيطرة عليها فتتعمق مآسيها باتساع رقعة الصراع.
ما كان أغنانا عن كل هذه السيناريوهات القلقة المقلقة لو أن صوت العقل غلب سواه بعد أسبوع، أو شهر من تفجّر الوضع في قطاع غزة. كانت مجزرة واحدة تكفي بدلاً من أن تصبح المجازر فعلاً اعتيادياً يستوقف مع مرور الوقت هواة الإحصاء منزوع القلب والضمير، وبدلاً من أن يتحول الدم المسال إلى فاتح شهية للإبادة وتعدد الساحات المرشحة للتفجر.
إن عمراً سياسياً طال شهوراً لبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ودعاة التطرف في فريقيه السياسي والعسكري، خصم من مستقبل المنطقة سنين وضيّع فرصاً سنحت للتعايش. وكل خطاب مخاتل غطى به عاشقو المنابر فشل الرؤية ووهم المشروع وضع بلداناً في المنطقة في وجه خطر لم تكن تحتاجه من الأساس.
وكل فرصة أفلتت لوقف مأساة غزة قبل أن تبلغ شهرها العاشر يمكن أن تجلب ندماً لكل الأطراف، لكنّه لن يعصم أحداً من المساءلة عن كل جائع وعارٍ ومشرد وجالس في انتظار الموت.
لا سبيل إلا استمرار الجهود الرامية إلى وقف الحرب وقطع الطريق على المستفيدين من إطالة أمدها بمزيد من المجازر والسعي إلى فتح ساحات جديدة، استغلالاً للانشغال الأمريكي بالانتخابات أو غيره.
الهرب الانتحاري من الواقع الذي أصبحت عليه المنطقة لن يفيد، فلا بديل عن اغتنام فرصة قد تكون أخيرة واحترام جهود الوسطاء والداعمين لها المحافظين على موقف مبدئي لم يتبدل منذ اليوم الأول: عصمة الدم أولوية، والعنف لا يجلب إلا عنفاً.
لا يوم تالياً في غزة أو غيرها من أركان المنطقة ما لم تصمت أصوات التطرف وتبور بضاعة تجّار الأرواح الذين كلما اقتربت المأساة من نهايتها أو قدوها من المخابئ ومن وراء الشاشات، ووقودها دوماً البشر الهاربون من موت إلى موت.
التعليقات