محمد قواص

عرف الشرق الأوسط مشاهد الحشد العسكري الأميركي في الحروب التي انخرطت فيها الولايات المتحدة في المنطقة في العقود الأخيرة. تعود بنا الذاكرة إلى حرب تحرير الكويت في عام 1990، وغزو العراق في عام 2003، والحرب ضدّ "داعش" في عام 2014. تدفع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بأساطيل وأسراب مقاتلة، وتتعهّد واشنطن بالدفاع عن إسرائيل، ويجوز التساؤل بشأن الاحتمالات التي تخطّط لها واشنطن ومسوّغ حاجتها إلى كل هذا الاستعراض المقلق.

تزدهر نظريات بشأن أن تكون "المناسبة" عذراً لشنّ حرب واسعة لتصفية حسابات متعدّدة (أهمها إيران وبرنامجها النووي)، يطيب لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن تكون الولايات المتحدة حاضرة بقوة داخلها. لكن قواعد الحروب وأعراضها، على الأقل كما شهدناها من خلال الأمثلة التي ذكرناها، لا تجري وفق السياق الذي يذهب إليه البنتاغون، أو المعتمد من أي إدارة تحكم الولايات المتحدة.

تستدعي واشنطن حلفاءها للتدخّل والمشاركة في مروحة الضغوط الدبلوماسية على إيران لعدم الردّ على إسرائيل أو عقلنة إيقاعاته. تطلب من تركيا التدخّل في الاتجاه نفسه، وتستنتج زيارة في هذا الإطار قام بها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي لطهران. ولا تعمل واشنطن، على منوال ما فعلت في حروبها المعلنة، الشرق أوسطية، على تشكيل تحالفات إقليمية ودولية عسكرية والإعداد لحملتها عبر منابر الدبلوماسية الدولية، وفي مقدمهم مجلس الأمن.

تبدو الحشود الأميركية العسكرية في المنطقة واجهات يُراد لها أن تكون رادعة لأصحاب الرؤوس الحامية. تعود الولايات المتحدة بقوة تكاد تكون قصوى إلى الشرق الأوسط، بعد سنوات تكدّست فيها قراءات عن هجر استراتيجي أميركي للمنطقة لصالح تفرّغ تام لمواجهة الصين وما تشكّله من تحدّ بات أولوية في استراتيجيات الأمن والتفوّق الأميركية. وعلى الرغم من أن حوافز الاستنفار العسكري الأميركي الحالي تستجيب لمتطلبات تصاعد التوتّر بين إيران وإسرائيل، فإن إعادة "احتلال" واشنطن ميدان الشرق الأوسط بترسانة هائلة متقدّمة تبعث، في المناسبة، إلى الصين وروسيا، في الوقت عينه، برسائل هيمنة تملكها الولايات المتحدة في المنطقة.

وما يمكن أن نستنتجه أن الحشود العسكرية، خصوصاً عندما تأخذ منحى استعراضياً تجول فيه أكثر تكنولوجيات الحرب تقدّماً في البحر والجو، ليست بالضرورة أن تكون إعداداً لحرب ضروس، بل منعاً لها وردعاً لأصحابها. رسالة ذلك الاستعراض موجّهة بالطبع إلى إيران، تحذّرها من مغبة الذهاب بعيداً في الردّ على إسرائيل، لا سيما في طبيعة الأسلحة ومساحة الجبهات. مفاد الرسالة أن واشنطن جادّة في الدفاع عن إسرائيل، وهي توفّر من أجل ذلك أقصى الإمكانات. والرسالة موجّهة أيضاً إلى إسرائيل، ومفادها أن الوعاء العسكري الأمني الذي توفّره الولايات المتحدة يعني أن زمام المبادرة أميركي في المنطقة، وأي ردّ على الردّ الإيراني تقرّر وقعه وإيقاعه واشنطن، لا حسابات بيتية في إسرائيل.

تعرف واشنطن أن الردع العسكري لم يعد كافياً، وأن المنطقة قد تشتعل بسبب تجاوز عرضي غير مضبوط. فجأة، صدر عن قادة الولايات المتحدة ومصر وقطر بيان في 8 آب (أغسطس) الجاري يدعو إلى استئناف مفاوضات غزّة في 15 من الشهر نفسه. كان يمكن هذا البيان أن يبقى بياناً، لكن ردات الفعل عليه كشفت عن جدّية خطة طريق لنزع فتيل الانفجار الكبير. حظي البيان بدعم سريع وشامل من دول المنطقة المعنيّة بالصراع، ومن الاتحاد الأوروبي. وصدر عن فرنسا وبريطانيا وألمانيا (ترويكا الاتفاق النووي) في 12 من الشهر الجاري بيان يدعم التفاوض والإفراج عن المساعدات الإنسانية، ويدعو إيران إلى عدم الردّ على إسرائيل. وتُلحق واشنطن تحريك أسطولها بـ"إنزال" يقوم به كبار دبلوماسييها في المنطقة، في سعي إلى انتزاع اتفاق في غزّة.

لا أحد يريد هذه الحرب الكبرى. بكين تواصلت مع طهران في هذا الصدد. وزار موفد موسكو، سيرغي شويغو، المقرّب من الرئيس فلاديمير بوتين، طهران ونصح بالتروي والحذر. إيران نفسها التي انتخبت مسعود بزشكيان رئيساً إصلاحياً لا تريد إفراغ الحدث من أهدافه الانفتاحية الواعدة. والولايات المتحدة لا تخطّط للتورّط في حرب على بُعد أشهر من انتخابات تُضعف حظوظ مرشحة الحزب الديموقراطي الحاكم، كامالا هاريس، في منع دونالد ترامب من العودة إلى البيت الأبيض.

الكل يريد النزول عن الشجرة. وموعد استئناف المفاوضات قد يكون مفصلاً يحدّد وجهة التوتّر في الشرق الأوسط وآفاقه. لا أوهام عن اختراق سحري. لكنّ ضغوطاً دولية عربية تركية تتقاطع لإنتاج لحظة تفضي إلى الوصول إلى اتفاق ممرحل، من شأنه إنهاء الحرب في غزّة. بدا أن الأمر فجّر خلافاً في إسرائيل بين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت الذي يقرّ بأن إسرائيل هي مصدر عرقلة الاتفاق. حتى بدت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية أكثر وثوقاً بقيادة يحيى السنوار للحركة لإنهاء الحرب. في المقابل، تبدو حركة "حماس" متأنية زاهدة في التعامل مع هذا الموعد في موقف يتراوح بين الإيجابية والشكّ، فيما ترسل واشنطن ما يشبه المناشدات أن تكون "حماس" حاضرة من أجل الحلّ.

تقارير الاستخبارات، لا سيما الإسرائيلية، التي تتحدث عن توقيت ردّ إيران و"حزب الله"، المنفصل أو المشترك، وطبيعته، تبدو متعجّلة محشوّة بجرعات البروباغندا. تقابل ذلك ضبابيةُ ما تُعدّه طهران وغموضُ ما تخطّط له. يتسرّب جدلٌ بين بزشكيان والحرس الثوري يبرّر الجدل وحيرته، كما تتدافع الضغوط الدولية وحسابات إيران نفسها في عدم الحسم في مسألة الردّ واحتمالاته. والأرجح أن إيران لا تدرس كيفية الردّ، بل تسعى إلى استشراف طبيعة الردّ الإسرائيلي المضاد، وهامش المسموح والمحرّم. حتى أن طهران اكتشفت في الساعات الأخيرة أن عملية اغتيال هنيّة عمل استخباري يُردّ عليه بعمل استخباري مضاد، وتوحي بأن وقفاً لإطلاق النار في غزّة هو "السبيل الوحيد الذي قد يُرجئ ردّ إيران مباشرة على إسرائيل".