لصاحبة الجلالة.. انتهى تماماً زمن الشعراء والروائيين الكبار ممّن كانوا يكتبون أسبوعياً أو يومياً في الصحافة العربية، وكانوا بالفعل ملح وسكر وبهارات تلك الصحافة التي كانت في السبعينات والثمانينات تعطي الحيّز الثقافي مساحات محترمة، والصحيفة التي تستقطب شاعراً أو روائياً أو ناقداً أدبياً أو كاتباً متخصصاً في المسرح وفي الفنون التشكيلية كانت تعتبر ذلك الاستقطاب امتيازاً مهنياً للصحيفة، وفي الوقت نفسه، كانت المادة التي تكتبها تلك الكوكبة من الأدباء والمثقفين والفنانين هي روح الصحيفة، بل شخصيتها الاعتبارية العائدة أولاً إلى مهنية الصحيفة، وثانياً، اعتماد هذه المهنية على القلم الأدبي الذي يدرك جيداً متطلبات الكتابة الصحفية ومعادلتها الحرفية الدقيقة، أي أن لا تطغى لغة الأدب على لغة الصحافة، وأن لا تطغى لغة الصحافة على لغة الأدب..موازنة ذكية كان يعرفها كتّاب الصحافة العربية جيداً، من دون حاجة إلى توجيه مهني من أحد، والصحافة مهنة الأدباء والشعراء بالفطرة، وما من صحيفة عربية ناجحة إلاّ ويجري في عروق ورقها دم أدبي، وحتى الأستاذ الكبير في هذه المهنة الرائعة محمد حسنين هيكل كان في مقالته الصحفية ذلك الدم الأدبي.. في السبعينات والثمانينات وحتى بعض من التسعينات كان نجوم الصحافة هم نجوم شعر ورواية وفكر ثقافي رفيع.. محمود درويش كتب في الصحافة نثراً مستعاراً من شعريته الاستثنائية، وخلط أدونيس (الصحفي) بين الفكر والنثر الشعري وكبرياء اللغة التي لا تسقط أبداً في ما هو ساذج أو سطحي، وكتب أحمد عبد المعطي حجازي مقالة صحفية احترافية قائمة على ثقافته الشعرية العميقة، وكانت مقالة الطيب صالح من وزن العيار الثقيل لكنها لم تفرّط أو تتكبّر على العرف الصحفي، أما نزار قباني فقد خلط حبر الورق الصحفي – بعطر الياسمين الفوّاح في شعره – الغرامي الغنائي، وحوّل أنسي الحاج القطعة الصحفية إلى قطعة غنائية، هادئة وعميقة تماماً مثل شخصيته – التي لا تُرى في النهار.هجم محمد الماغوط بجوعه ودموعه ومعه دموع بردى على الصحافة بدم حارّ لا يعرف البرودة مطلقاً، وكانت مقالة بلند الحيدري الصحفية أنيقة مثله، ملمومة، وضاربة، وناقدة، وكتب ممدوح في الصحافة، فملأها بالضحك والسخرية المضمرة والنقد الذكي. كان يعرف كيف يمرر السكين على اللحم من دون أن تسقط نقطة دم واحدة، وكتب محمد القيسي صحافة أدبية شعرية حوّلها إلى نثر يشبه القمح الذي كان ينظفه من الزؤان، وكانت مقالة محمد العلي الصحفية أشبه بالرسائل أو الكلام المتبادل بين الطيور وكأن له منطق الطير والفلسفة والإشارة، وأجرت غادة السمّان الكثير من الماء النعنعي الرقيق في اللغة الصحفية، ثم، انّثت هذه اللغة لكي.. يُعَوّل عليها، وكان (هذرولوجيا) سليمان الفليح علماً صحفياً في السخرية الأنيقة المؤدبة من دون استعراض أو مكابرة.. زمن صحفي عربي بدأ بكبرياء، وانتهى بكبرياء. صحفيون أدباء وسموا المهنة بصاحبة الجلالة..
- آخر تحديث :
التعليقات