منذ زمن، وأنا معني بفئة المهمشين في المجتمع، وكانت المرأة تاريخياً الأكثر تهميشاً في مجتمعاتنا، خاصة في ما يتعلق بمواضيع شديدة الحساسية كزواج القاصرات، والختان، وتحريم التعليم عليهن، ورفض بنود معينة تخصهن في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ورفض إلزامية تعليمهن، وجرائم الشرف، وغيرها من قضايا بالغة، والتي كانت دائماً وأبداً من أسباب تخلف مجتمعاتنا.

من فئة المهمشين في مجتمعاتنا، الذين عانوا الكثير وتألموا وبكوا من سوء معاملة جهات عدة في الدولة معهم، فئتا المثليين وغير محددي الوالدين، وغالبية هؤلاء، إن لم يكن جميعهم، ليست لهم علاقة أو ذنب بما هم فيه وعليه، ولكن فئات معقدة من المجتمع، ولأسباب معروفة، تستسيغ، بل وتستمتع، بالنظر لهم بدونية، لكي يرضوا عقدهم، وينفسوا عما بداخلهم من قصور وعجز.

قلة فقط تعرف حقيقة مأساة هؤلاء في مجتمع ظالم، كمجتمعاتنا التي تتسم بقدر كبير من اللاإنسانية، وهؤلاء في غالبيتهم من تفرض عليهم ظروف وظائفهم الاقتراب والتعامل معهم الاستماع لمعاناتهم.

قامت الزميلة «الراي»، قبل بضعة أشهر، بإجراء مقابلة مع الأخ عبدالرزاق شهاب وهو من فئة «مجهولي الوالدين»، أو ما يسمى تلطيفاً، أو إهانة، بـ«أبناء الشؤون»، أي الجهة الحكومية التي لها الولاية عليهم، لحين بلوغهم الـ18 سناً.

بجرأة وبقدر كبير من الاعتزاز بالنفس، الذي يستحق الاحترام قرّر عبدالرزاق أن يكون أول من يظهر علناً ويعلن عن هويته في الإعلام، ويتحدث عن معاناته، راوياً حكايا وأسراراً مرت عليه طوال 40 عاماً، منذ أن دخل دور الرعاية وعمره كان يومين حتى العام الحالي بعد أن أصبح ناضجاً و«شاهد عيان» على تجربة يُجهلها الكثيرون.

من أوليات مشاكل هذه الفئة شبه استحالة زواجها، كرجل أو امرأة، من وطنها، بالرغم من العناية الحكومية الجيدة التي يلقونها من الأجهزة المعنية، التي كانت تهتم بحاجاتهم النفسية لأب وأم، افتراضيين طبعاً. ويقول إن أول صدمة تلقاها كانت في نقله من دار الطفولة، حيث المرأة هي المشرفة، إلى دور الضيافة، حيث الرجل هو المشرف، وكيف افتقد فجأة المجتمع الأنثوي، وعاني من ضغوط نفسية شديدة لفقد أسرته الافتراضية، التي ربته حتى أصبح شاباً، لكنه أجبر على التأقلم، ومازال مقيماً هناك، على الرغم من عدم استحقاقه الرعاية الإيوائية.

يقول عبدالرزاق إن «أبناء الشؤون» نوعان: «محتضنون»، وهؤلاء تقوم عادة الأُسر المحتضنة بتقديم الرعاية السكنية لهم، حتى بعد زواج الابن المحتضن. أما الأخرى فهم شريحة مختلفة بمشاكلها وظروف حياتها. فمنذ عام 2014، حاولت «الشؤون» إخراجهم من مبنى «حولي»، وما زال بين الطرفين نزاع قضائي، والفكرة ليست في العمر بل في الاحتواء، فهؤلاء ليست لديهم أسرة، ولا بيت ولا من يرثهم شرعاً، وبعد وفاتهم تعود أموالهم للدولة، والدولة ترفض أن توفر لهم بيوتاً، حتى مؤقتة، بل تطلب منهم «تدبير أنفسهم»!

ويشتكي عبدالرزاق من فقده للشغف، فلا أحد على استعداد لتنمية مهاراته أو مواهبه، ويقول إنه فقد الرغبة في أشياء كثيرة منها الدراسة، وأنه يعمل موظفاً في الحكومة منذ 20 عاماً، ويعشق التصوير، ويعمل مع بعض الجهات في القطاع الخاص بشكل غير منتظم، لكن حياته بمجملها ليست طبيعية، فقد ترعرع بين مشرفين ينتمون لبيئات وخلفيات متنوعة وقيم متناقضة، ولم يحظَ يوماً باستقرار نفسي او اجتماعي أو تهيئة للمقبل من الأيام، ولهذا السبب فإنه يحاول استخدام هواياته ونشر الوعي المجتمعي بين فئته، ويخطط لإنتاج فيلم غنائي قصير يوثق تفاصيل حياة المحتضنين، وهناك موافقة مبدئية من فنانة كبيرة مشهورة للغناء في هذا العمل الذي سيهديه لأمه التي ولدته!!

مؤسف ملاحظة ما تلقاه هذه الفئة من ظلم، في الوقت الذي نرى فيه أمثالهم في الدول الغربية من البارزين في مجتمعاتهم، ووصل بعضهم لأعلى المناصب السياسية وأخطرها، مثل المستشار الألماني ويلي برانت.

نحتاج إلى الكثير من الشجاعة لتغيير الصورة النمطية الظالمة التي لحقت بهذه الفئة، دون ذنب جنته.


أحمد الصراف