ميسون الدخيل

أتذكر عندما كنا صغارًا كنا نسعد بقصص «أمام البطل طريقين؛ إما أن... أو أن...»، ومن ثم تتشعب الطرق، كل طريق يتفرع إلى طرقات وخيارات لا تنتهي، إنها مرآة الحياة طرق وخيارات. في مقالتي اليوم أتحدث عن طرق وخيارات؛ إما أن تدخل وتندمج وقد تجد ما يدعمك أو من يحطمك، وإما أن تصمت وتحتفظ بآرائك لنفسك حتى تجد الشخصية المناسبة القادرة على التحمل والاستيعاب والاحتواء. اليوم وفي عالم متزايد الاستقطاب، نجد أن الانخراط في محادثات منفتحة مع أولئك الذين يحملون معتقدات مختلفة ليس مجرد مهارة قيمة، بل هو ضرورة حيوية، فلو تمعنا في العبارة التالية، «إن إجراء محادثات منفتحة مع أشخاص يمكن تصديقهم ويختلفون معك هي أسرع طريقة للحصول على المعرفة وزيادة احتمالية أن تكون على حق»، نجد أنها تجسد جوهر النمو الفكري، لأن المفتاح هنا ليس فقط الاختلاف بل الثقة أيضًا، أي ثقة أتحدث عنها؟ الثقة بأنه إلى الجهة الأخرى من الحديث تقف شخصية غير مهزوزة أو ممن تضمر الشر وتحور الكلام أو تحوله إلى «شخصنة» في حال لم تعجبها وجهة نظرك أو تحليلك للموضوع. المهم أنه في هذا الزمن صعب أن تجد هكذا شخصية، لكن إن وجدت لا تتقاعس وأدخل في حوار موضوعي وبناء، إنها فرصتك كي تجرب عرض أرائك والتعرف على وجهة نظر الآخر ممن تثق في مصداقيته. غالبًا ما تخلق ديناميكيات الأسرة غرف صدى إذ تظل المعتقدات المشتركة دون تحد، ومع ذلك، فإن الانخراط في مناقشات منفتحة مع أفراد الأسرة الذين يحملون وجهات نظر مختلفة يمكن أن يكون تحويليًا. على سبيل المثال أثناء التجمعات العائلية، تتحول إلى نقاشات ورؤى عميقة حول مواضيع مثيرة للجدل مثل ماهية المواطنة والمسؤولية نحو الآخر أو حتى السياسات الخارجية للدول المعادية، فعندما ينخرط الآباء والأبناء في حوار حول الصراعات التاريخية أو وجهات النظر السياسية المختلفة، فإنهم يشجعون التفكير النقدي والذكاء العاطفي. يمكن لمناقشة آثار الحرب في الشرق الأوسط أن تساعد أفراد الأسرة الأصغر سناً على فهم تعقيدات الجغرافيا السياسية، ومن ثَم تعزيز ثقافة الفضول بدلًا من المطابقة، لأن هكذا بيئة تغذي القدرة على التعامل مع الموضوعات الحساسة باحترام وانفتاح، وفي نهاية المطاف يتم إعداد الأجيال الأصغر سنًا للانخراط بشكل مدروس مع وجهات نظر متنوعة خارج وحدة الأسرة. أما وسائل التواصل الاجتماعي فقد اعتُرف بأنها سلاح ذو حدين، حيث تخدم منصات التواصل الاجتماعي كساحة معركة للحرب الأيديولوجية كما تخدم كونها مساحة للحوار الغني، ففي حين تعمل هذه المنصات غالبًا على تضخيم السرديات المثيرة للانقسام، نجد أنها توفر أيضًا وصولاً غير مسبوق إلى وجهات نظر متنوعة. المهم هنا أن التواصل مع الأفراد «القابلين للتصديق»- أولئك الذين لديهم معلومات وواضحة، حتى لو كانوا لا يتفقون مع وجهات نظرنا- يمكن أن يتحدى تحيزاتنا ويوسع فهمنا للقضايا الحرجة، فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي متابعة المعلقين ذوي الآراء المختلفة حول العلاقات الدولية إلى تعريض المستخدمين لوجهات نظر بديلة حول صراعات مثل الحرب الجارية في غزة ولبنان أو تعقيدات السياسة في الشرق الأوسط ككل. عندما يتم التعامل مع هذه المناقشات بعقل منفتح، يمكن أن تؤدي إلى فهم أعمق للأسباب وراء مثل هذه الصراعات، بما في ذلك المظالم التاريخية والعوامل الاقتصادية والسياقات الثقافية. وبدلاً من اللجوء إلى ثقافة الإلغاء، فإن تبني الحوار يمكن أن يعزز ثقافة الفهم والمناقشة الدقيقة، ما يعزز في نهاية المطاف اتخاذ القرارات المستنيرة. أما في البيئات المهنية، فتعد المحادثات المنفتحة أمرًا بالغ الأهمية للابتكار والعمل الجماعي الفعال، حيث يمكن لمكان العمل الذي يشجع الآراء المتنوعة والمناقشات البناءة أن يستغل نقاط القوة لدى موظفيه. على سبيل المثال، تستفيد الشركة العالمية التي تتعامل مع الأسواق الدولية بشكل كبير من وجود موظفين لديهم وجهات نظر متنوعة حول الصراعات الأجنبية الخاصة بالاقتصاد وتأثيراتها في الأعمال. وعلاوة على ذلك، تعمل المنظمات التي تروج للحوار المفتوح على تنمية ثقافة الأمان النفسي، حيث يشعر الموظفون بالراحة في التعبير عن وجهات نظر مخالفة، وهذا لا يؤدي فقط إلى اتخاذ قرارات أفضل، بل يشجع أيضًا على النمو الشخصي والمهني. فعندما يتعرض أعضاء الفريق لوجهات نظر مختلفة- مثل تلك المتعلقة بالتداعيات الأخلاقية للعمل في منطقة متأثرة بالصراع- فإنهم يكونون أكثر ميلًا إلى تحسين حججهم وتحديد النقاط العمياء، ما يزيد في النهاية من احتمالية تحقيق نتائج ناجحة. أما عند تناول موضوع الصراعات المسلحة والحروب الأخيرة تتضح لدينا أهمية التعامل مع الآراء المختلفة، كيف؟ خذ على سبيل المثال المناقشات المحيطة بالتدخلات العسكرية الأمريكية في المناطق المختلفة حول العالم؛ إن التحاور مع الخبراء والمحاربين القدامى والمدنيين من المناطق المتضررة، يمكن أن يسلط الضوء على التعقيدات والمعضلات الأخلاقية التي تنطوي عليها مثل هذه التدخلات. إن أولئك الذين يشاركون في هذه المحادثات مجهزون بشكل أفضل للتنقل في المشهد المعقد للعلاقات الدولية والأخلاق العسكرية، علاوة على ذلك، تستفيد المناقشات حول تداعيات الصراع في فلسطين المحتلة أو العواقب المحتملة للاجتياح البري للبنان من المحادثات متعددة التخصصات. فغالبًا ما يحمل العلماء وصناع السياسات والناشطون وجهات نظر متضاربة حول أفضل مسار لحل القضايا، ويمكن أن يؤدي التعامل مع هذه الآراء المتنوعة إلى فهم أكثر شمولاً يأخذ في الاعتبار التأثيرات الإنسانية والاستقرار الجيوسياسي والأمن القومي، مما يعزز الاستجابات الأكثر نضجًا وفاعلية ما بين المتحاورين. إجراء محادثات منفتحة مع أشخاص جديرين بالثقة يختلفون معك في الرأي ليس تمرينًا على التسامح أو التقبل؛ بل طريقة قوية للتعلم وتطوير خزان المعرفة لديك. فمن خلال تعزيز البيئات- سواء في الأسر أو على منصات التواصل الاجتماعي أو في أماكن العمل أو أثناء المناقشات حول الصراعات العالمية، يمكننا أن نتعلم كيف نتعامل مع هذه التحديات، بالنهاية لسنا مجبورين على شيء سوى أن نفهم أنفسنا أولًا ونثق بأننا قادرون على تحمل الآراء الأخرى. بالنهاية أمامنا طرق واختيارات إما أن نبقى على جهل، وهذا سوف يصل بنا إلى طريقين، إما التقوقع والانتفاخ، أو البحث للتعلم. قد نميل إلى الاعتقاد بأن كل ما نعرفه الآن، في هذه اللحظة، هو ما عرفناه دائمًا وما سيظل صحيحًا إلى الأبد، ولكن من الناحية المنطقية، نعلم أن هذا ليس صحيحًا. والمفتاح هو فهم أننا نعرف ما نعرفه.... حتى نصل إلى معلومات أو حقائق جديدة. عندها أيضًا سوف نواجه طرقًا واختيارات. ألم أقل لكم إنها طرق بلا نهاية! المغزى هنا أنه مهما تعددت الطرق والخيارات احرص على أن تصل إلى مرحلة الاختيار بعقل وليس عن نرجسية أو اتباع ونقل.