انتهت تونس من انتخاباتها الرئاسية مؤخراً من دون ضجيج. وقبلها فعلت الجزائر. إلا أنّ حمار الشيخ، المشهور في التراث الشعبي العربي، ما زال واقفاً مسمّراً بمسامير من قوائمه الأربع في مكانه، غير قادر على إكمال مسيره، وتجاوُز العقبة التي واجهته عند الحدود مع تونس، والوصول إلى ليبيا.

تبدو العاصمة طرابلس للزائر والغريب، مدينة من طراز مختلف عن غيرها من مدن العالم، كونها تزخر بالمتناقضات. فهي أقرب ما تكون إلى مدينة تدور حول نفسها في مكان واحد، بدل أن تتحرك إلى الأمام، وتستحوذ على ما تستحقه تاريخياً من مكانة بين مدن العالم، رغم أنها تتموضع في موقع متقدم في قائمة الدول العتيقة، بجذور ضاربة في التاريخ.

ليبيا بلدٌ قد يُذكر الزائر، خلال السنوات الأخيرة، بحكاية ذلك الغراب الغبي الذي حاول تقليد مشية الحمامة فنسي مشيته، وصار يتقافز في مشية غريبة تميّزه عن سائر الطيور. فهي جغرافياً على بُعد مسافة قصيرة من المركز الأوروبي، إلا أنّها ظلت دوماً تستريب في كل من يأتيها من الضفة الشمالية المقابلة، ولم تنسَ مطلقاً ما فعلوه بها في مختلف الحقب، ولكن من بعيد لا تُخفي إعجابها حدّ الانبهار. وفي الوقت ذاته، تعلمت أن تنظر إلى ما وراء الصحراء نظرة ازدراء، رغم أنها لم ينلها سوءٌ مطلقاً من جيرانها الأفارقة. وهي مع كل مئذنة جديدة، تتوطد في الأرض، وترتفع عالياً نحو السماء ترسيخاً لهوّيتها الإسلامية التاريخية، وعلامة على تدينّها، تزداد قدماها غوصاً في المستنقع المادي الدنيوي. إذ كلما امتلأت قاعات مساجدها بالعابدين، تزداد أعداد المحتالين والنصابين واللصوص ومهربي المخدرات والبشر في أسواقها.

ليبيا حالياً، وصلت سياسياً إلى ما يمكن أن يطلق عليه «السير في المكان». فالزمن يتحرك للأمام، ومعه تتحرك الدنيا وأهلها. لكنَّ العملية السياسية في البلاد لم تتمكن بعد من الخروج من عنق الزجاجة. الأسباب معروفة بالطبع. ذلك أنَّ مَن تآمروا على إدخالها في هاوية الفوضى السياسية، منذ فبراير (شباط) 2011، باستحواذهم على مقاليد الأمور، ما زالوا متخندقين في أماكنهم، يرفضون التنحي، ويحرصون على استمرارية ما عُرف باسم فرض الأمر الواقع، بوضع العصيّ في الدولايب. إذ كلما بدأت تظهر مؤشرات على إمكانية تجاوز العقبة، وفتح الطريق أمام عقد انتخابات رئاسية وبرلمانية، تشتعل بغتة نيران الحرب. الشرارة تأتي من أي جهة، وتنقلب الأمور رأساً على عقب. ثم تنتهي الحرب، وتُطفأ النيران، لكنَّ مجرى الحوار السابق لها، يتحول من السعي إلى خلخلة الحواجز السياسية أمام عقد الانتخابات إلى مجرى مختلف، ويدخل الجميع في مجرى آخر، يدور حول ضرورة عقد مفاوضات برفع الحواجز المسلحة من الطرقات، والسماح بعودة الحياة.

وفي طرابلس، تبدو الحياة عادية للزائر. يمارس سكانها حيواتهم، وتعمر مقاهيها بالرواد إلى ساعات متأخرة في الليل، وتختنق شوارعها بازدحام السيارات، والمصارف، الحكومية والخاصة، تخلو خزائنها من السيولة النقدية، لكنّ الناس تعودوا على ذلك ولم يعد يشغلهم شاغل سوى الوقاية من ويلات اشتعال حرب أخرى بين جماعاتها المسلحة. وهذا ربما يترك لدى الزائر انطباعاً مفاده أن الناس في وادٍ، والساسة والقادة في وادٍ آخر. وما ينطبق على العاصمة طرابلس يكاد ينطبق على بقية مدن الجهة الغربية من ليبيا. أما الجهة الشرقية، فإنها في منأى عن هذا الخوف تحديداً، وليس من الخوف عموماً. فالسلام والاستقرار لا يأتيان مجاناً، من دون دفع أثمان!

قضيت أسبوعاً كاملاً في طرابلس، ولم أسمع، ولو صدفة أو عرضاً، حديثاً عن عقد انتخابات. وسائل الإعلام المحلية، سواء المقروء منها أم المرئي، تنشغل بأمور كثيرة، ليس من ضمنها الانتخابات. ويظل موضوع تقلبات أسعار الدولار في السوق السوداء أهم شاغل لكل الليبيين والليبيات. ومن الواضح أن حلّ أزمة مصرف ليبيا المركزي بالاتفاق على تعيين محافظ جديد، لم تؤدِّ كما كان متوقعاً إلى انفراجة عامة، برفع سعر الضريبة الزائدة على سعر بيع الدولار في المصارف. وما حدث هو أن رئيس البرلمان فاقد الصلاحية، أصدر قراراً مؤخراً، بتخفيض قيمتها من 27 في المائة إلى 20 في المائة، مما تسبب في موجة إحباط عامة لا تَخفى.