يقول المثل الشعبي: لو كل من جاء ونجر، لما بقي في الوادي شجر، ومعنى ذلك أن لكل مهنة أربابها، يعرفون أسرارها وطرقها، ويتحملون نتائجها، ومن يدخل بينهم بلا علم فغالباً ما يتعرّض لخسارة كبيرة.

بشكل عام، يفضّل أغلبية البشر، حتى المهنيون الكبار من اقتصاديين وأطباء وقانونيين، العمل مقابل أجر مضمون، على المخاطرة وفتح مكتب استشارات أو عيادة قد لا تعطيهم الأجر المضمون والمستمر الذي يجدونه في الوظيفة. ولو عرض على الأغلبية العمل في التجارة لما قبلوا، بالرغم مما تدره عادة من أرباح، وذلك يعود إما لصعوبة العمل التجاري ومتطلباته المالية والذهنية، والخوف من خسارة المال والسمعة، والاضطرار للعمل لساعات طويلة، والحرمان من التمتع بالإجازة السنوية، خاصة في مراحل التأسيس. لذا نجد أغلبية من يشتكون من «جور» التاجر، يرفضون العمل كتجّار، ليكونوا مثالاً أفضل، بل يفضلون الاحتفاظ بوظائفهم، والانشغال بالهجوم على غيرهم.

كانت التجارة وستبقى، تاريخياً، مصدر ثراء وإفلاس ومخاطرة نجاح أو فشل، وسعادة وتعاسة للكثيرين، ولا يدخل مجالها إلا متمكّن وعارف أو جاهل غير عالم، ولا يمكن لأي مجتمع القضاء على مهنة التجارة، إلا بالتحول للنظام الشيوعي، الذي ولّى زمنه منذ ثلاثة عقود، مع سقوط وهم القذافي، وقلعة السوفيت، وتخلّي الصين عن مبادئ ماركس، واختيارها لحرية التجارة!

لقد سبق أن كررنا مرات عدة أن وجود تاجر جشع وسيّئ أمر طبيعي، مثلما هناك محام سيئ وطبيب فاشل، ومدرس بائس، وهكذا. ولو نظرنا حولنا لوجدنا عشرات أو مئات المباني والخدمات المخصصة للمنفعة العامة، قام ببنائها أو تأسيسها تجّار، وآخرها مستوصف «مساعد الصالح» في الشعب، الذي سيخصص غالباً لمرضى العيون، ومع هذا لم نشاهد دكاناً شيده أو «أوقفه» أو صرف عليه موظف، كان يوماً وكيلاً أو وزيراً أو مستشاراً يكسب الملايين، لأن هذا غالباً ليس مطلوباً، أو متوقعاً منه.

أنا تاجر، وأمارس عملي بأخلاق، وأخلاقي تقول إن التضخم يأكل الجميع، وخصوصاً صاحب الدخل المحدود، سواء كان موظفاً أو متقاعداً، فما كان متوفراً ببضعة دنانير قبل سنة أو سنتين أصبح يكلف أضعاف ذلك اليوم، فتكلفة تعبئة عربة السوبرماركت، أو الجمعية، اليوم تختلف عما كان عليه الحال قبل سنة، والحل ليس حتماً في رفع الرواتب، التي سيلحقها رفع الأسعار. وتصبح المسألة أكثر صعوبة مع جهل أو رفض الكثيرين استخدام مؤشرات الترشيد أو الاستثمار في حياتهم، فالمظاهر أهم من الدخل، لذا لا يتردد الكثيرون في اللجوء إلى الاقتراض لحل مشاكلهم، التي خلقوها لأنفسهم، أو ترددوا في حلها بطرق رشيدة. فقد طرح القطاع الخاص، وطرحت الحكومة، أسهم شركات مساهمة للاكتتاب العام، بربح مضمون، خلال فترة قصيرة، لكن الأغلبية، لحسن حظ التجّار، ترددوا في المساهمة فيها، لأن عليها، تجنياً، علامات شك شرعية!

والطريف أن من يطالبون الحكومة بترشيد إنفاقها، ووقف مساعداتها للخارج.. والصرف عليهم برواتب مجزية وإسقاط قروض، هم الأكثر فشلاً في تدبير أحوالهم المادية، وبالتالي أية زيادة مالية ستأتيهم من الحكومة لن تحسّن، غالباً، أوضاعهم المادية!


أحمد الصراف