منذ استُهدف "حزب الله" من قبل الإسرائيليين، باتت قيادته أمام خيارات كبرى تجاه حربها التي بدأت ما بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وتصاعدت بصورة عمودية في الشهرين الماضيين وصولاً إلى قيام تل أبيب بضرب مواقع تحصيناته في المناطق الثلاث التي يسيطر عليها شمال البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب.
هنا يقف "حزب الله" أمام خيارات مصيرية، لا سيما أن القوات الإسرائيلية تبدو كأنها متمادية وتصبو إلى إلغاء دوره عسكرياً وأمنياً في لبنان. والتقاطع الحقيقي لقيادة الميليشيات التي نظمتها إيران في لبنان ليس فقط في ما يتعلق بالاستمرار في الحرب، ولكن في ما يتعلق أيضاً بمستقبل هذه القوة الخمينية العسكرية ولا خيار إلا اثنين.
الخيار الأول أن يستمر "حزب الله" بالقتال ضد إسرائيل إلى أن تسيطر هذه الأخيرة على مختلف المواقع بعد تدمير البنية التحتية العسكرية للحزب، وهذا فقط ممكن إذا استمرت تل أبيب بالاستفادة من الغياب الأميركي بسبب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، عندها لن يكون أمام الحزب إلا القتال التراجعي حتى خسارة كل بنيته الاستراتيجية وتحوله إلى قوة "عسكريه تائهة". هذا الخيار الأول ربما نناقشه في إطار التحولات الجيوسياسية الممتدة بين اليوم والانتخابات والأشهر الست التالية.
الخيار الآخر أن يقرر الحزب بنفسه أن يتحول إلى حزب سياسي ضمن المنظومة السياسية ويسلم سلاحه إلى الجيش اللبناني، كما فعلت الأحزاب والمؤسسات الأخرى ما بين عامي 1990 و1991، ولكل من هذه الخيارات شروط وتوقيت ومفاعيل مختلفة.
لذا فمن المهم أن نلخص تاريخ تطور "حزب الله" في لبنان ليس بتفاصيله العقائدية والسياسية اللبنانية فحسب، بل التوجهات الاستراتيجية الكبرى كذلك وكيف تحول من ميليشيات محدودة في شمال البقاع إلى قوة مسيطرة بالفعل على كل لبنان عدداً وعدة، فتاريخ الحزب كما يكتبه منظروه من داخله هو شيء، وتاريخ هذه المنظمة كما تنظر إليها الفئات اللبنانية الأخرى شيء آخر.
هذا ملخص المراحل من دون الخوض في التفاصيل لوصول التيار الخميني إلى لبنان ومسيرته، بالتالي نفهم احتمال ظهور شروط جديدة لاستمراره في ظل الحرب المقبلة، من أجل فهم تحديد الخيارات الآتية وكل ما هو إمكانات بين هذه الخيارات.
في الجذور هناك نقاش حاد في الغرب بصورة عامة والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا خصوصاً في ما يتعلق بنقطة انطلاق "حزب الله" داخل الأراضي اللبنانية، وهناك روايات متعددة، فرواية الحزب أن شباباً من الطائفة الشيعية وآخرين اجتمعوا بعد الاجتياح الإسرائيلي في يونيو (حزيران) 1982 وقرروا إطلاق مقاومة مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي وبنوا كل مشروعية الميليشيات عبر تكوين هذه الميليشيات ومواجهتها للاحتلال والقبول بدعم إيراني من النظام في طهران.
كل ذلك مبني على مشروعية قيام مقاومة لبنانية شعبية إسلامية ضد "الاحتلال"، بالتالي يعتبرون أن كل من يقف بوجههم ابتداء من التنظيمات اليسارية أو العروبية أو الإسلامية الأخرى هو عملياً يخدم الاحتلال، بالتالي في المناطق التي يسيطر فيها الحزب أولاً وبعد ذلك على كل لبنان إنما كل ذلك ينبثق من حقهم الطبيعي، بحسب مؤرخيهم أن يكون الحزب القوة العليا التي تسيطر على الجمهورية اللبنانية حتى تحرير كل كيلومتر أو إنش من الأراضي اللبنانية.
هذا هو منظورهم للتاريخ، لكن هناك منظوراً آخر ينطلق من مكان آخر، وهو أن الجمهورية الإسلامية الخمينية لديها مشروع للمنطقة ومشروع عالمي بإقامة الإمام الخميني لقوة عالمية وإقليمية، وبناء على ذلك وعلى إقامة علاقات مباشرة استراتيجية فوراً بعد "الثوره الإسلامية"، فقد تمكنت القيادة الإيرانية بعد زيارة حافظ الأسد ومقابلته الإمام الخميني من أن يسمح النظام في سوريا للجمهورية الإسلامية بأن يُرسل الحرس الثوري ومشتقاته إلى الأراضي اللبنانية.
دخل الحرس الثوري إلى شمال البقاع حيث كان معظم لبنان تحت الاحتلال السوري ونظم مجموعات كانت قائمة عملياً على مجموعات إسلامية شيعية جهادية في إطار ما يسمى "حزب الله"، وهو مرتبط مباشرة بالقيادة الإسلامية في إيران. وكل ذلك حدث ما بين نهاية 1979 ومنتصف 1981، مما يعني أن انطلاقة الحزب كانت أساساً من طهران إلى سوريا إلى شمال البقاع ولم تنطلق من داخل الجنوب، بل زحفت من بعلبك-الهرمل بمساعدة الحرس الثوري وبقبول نظام حافظ الأسد وقتها، وهذا فارق كبير أن تكون هذه القوة من إنتاج لبناني أساساً أو من إنتاج خميني.
بروباغندا الحزب تصر على "لبنانية" الميليشيات الخمينية، بينما معارضتها من السنة والمسيحيين والدروز يرون فيها امتداداً "للجمهورية الإسلامية". ولعل من حسم "خمينيتها" قيادة "حزب الله" وأمنائه العامين أنفسهم، عندما أصروا لعقود على أن كيانهم ومؤسساتهم جزء من "الجمهورية الخمينية."
والنقطة الثانية المهمة أن الحزب يدعي أنه قام "كردّ" على الاجتياح الإسرائيلي في 1982، بينما هو قام زمنياً منذ 1980 كامتداد لقيام الثورة الإسلامية، أو الانقلاب الخميني، في إيران والفارق كبير بين الاثنين. فما تحول إلى "حزب الله" وبصورة مركبة مع "الحرس الثوري" بدأ فعلياً في 1981 أي تقريباً سنة قبل الاجتياح الإسرائيلي وسيطرت هذه الميليشيات الصغيرة تدريجاً من شمال البقاع نزولاً إلى جنوبه، ومن ثم إلى الضاحية فالجنوب، بحسب الوقائع الجيوسياسية القائمة في تلك المنطقة. فأول قوة شعبية قاتلت إسرائيل وحلفاءها في الجنوب كانت الحركة الوطنية ومعها بعض أجنحة منظمة التحرير الفلسطينية، من بعض الإسلاميين السنة بصورة محدودة جداً.
استمرت "المقاومة الوطنية" المستقلة عن "التيار الإيراني" في مواقعها جنوب لبنان بمواجهة إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي لأعوام عدة، حتى تمكن الحزب من السيطرة التدريجية على كل اللاعبين في تلك المنطقة، وهذا أمر معروف من كل اللبنانيين، لا سيما استفادة تيار "الجهاد الخميني" من الانسحابات الإسرائيلية ليحل مكان المنسحبين ويستولي على القرى والبلدات بمظهر المحرر لأجزاء من لبنان في البقاع الغربي والجنوبي، فكلما انسحبت إسرائيل من منطقة دخل الحزب إليها.
بعد ذلك ومنذ عام 1985 حتى 1990 وبعدها حتى عام 2000، بدأ الحزب بمواجهات شرسة ضد الأطراف الأخرى من ضمن المقاومة الوطنية، والمفارقة أن الحزب بدأ بالسيطرة على مواقع حركة "أمل" حليفته الطبيعية التي كانت أيضاً مدعومة من النظام السوري وحصلت حرب بينهما انتصر فيها الحزب على الحركة، ثم انتقل الحزب إلى تصفية أخصامه وأعدائه داخل الطائفة الشيعية وتحول إلى القوة الرئيسة التي تسيطر على الطائفة، ومنها انطلق إلى إلغاء القوى التقليدية المناوئة لإسرائيل، لا سيما الحزب الشيوعي والأطراف القومية العربية الأخرى ودجّنها تدريجاً.
إذاً هناك سلسلة انقلابات قام بها "حزب الله" ليفرض نفسه قوة أساسية في "مواجهه إسرائيل" وهذا موقع أرادته القيادة في طهران. ومع سيطرته على المواقع التي كانت الحركة الوطنية قائمة فيها، بنى الحزب "الجدار الإسلامي الجنوبي" وبات مستعداً للتقدم بانتظار انسحاب إسرائيل. واشتبكت "المقاومة الإسلامية" مع "جيش لبنان الجنوبي" لأعوام عدة ولكنه لم ينتصر على القوة الجنوبية عسكرياً، بل تقدم جنوباً ليحتل مواقع "الجيش الجنوبي" بعد قرار إسرائيل بالخروج من لبنان عام 2000 وبعد أن قررت القيادة العسكرية الإسرائيلية حل "جيش لبنان الجنوبي"، وكان ذلك المفتاح الأساسي للسماح لـ"حزب الله" بأن يتقدم باتجاه الحدود.
التعليقات