ليست بيروت وحدَها من يعيش شغوراً رئاسياً ويعانيه.
بل واشنطن أيضاً. وهو شغور فعليّ وماديٌّ وسياسيّ وأكثر.
مع فارق أساسي بين العاصمتين.
فالثانية تخوض حرباً، بل حروباً، خارج أراضيها.
فيما الأولى تُخاض حربُ بل حروبُ الآخرين على أرضها.
هكذا تبدو الصورة من العاصمة الأميركية. وهذا ما يُنصح به لبنان، قبل فوات الأوان.
يؤكّد متابعون في واشنطن أنّ غياب الرئيس جو بايدن عن الحضور والفعل في البيت الأبيض بات شبه كامل.
ما كتبه بوب وودوورد في كتابه الأخير، “حرب”، وما توردُه كبريات الصحف الأميركية من وقائع عن “عجز” الرئيس، صارا أمراً معروفاً بل بديهياً هناك.
هنا تبدأ المأساة اللبنانية في واشنطن أو معاناة هذا البلد الصغير في خضمّ ذلك المحيط الكبير.
يروي المتابعون أنّ “غياب” بايدن فتح الصراع فوراً داخل الإدارة الأميركية على كلّ ما يتعلّق بأدائها وسياساتها.
رباعيّ يحكم أميركا بدل بايدن؟
سرعان ما برز في المثلّث الفدرالي الحاكم رباعيٌّ صلب عمد إلى الإمساك بالقرار.
هو رباعيّ بلينكن (وزير الخارجية)، سوليفان (مستشار الأمن القومي)، ماكغورك (مسؤول الشرق الأوسط في البيت الأبيض) والأخ المجاهد هوكستين الغنيُّ عن التعريف.
هذا الرباعيّ يجمع بين أطرافه أكثرُ من جامع أو قاسم مشترك.
أوّلها أنّهم جميعاً سيغادرون مراكزهم خلال أسابيع، أيّاً كانت نتائجُ انتخابات 5 تشرين الثاني المقبل.
ثانيها أنّهم بدأوا بالتالي منذ الآن مهمّة بحثهم عن وظائف جديدة، ويحضّرون لذلك “سيرهم الذاتية” ويقدّمونها أينما تيسّر، ورقيّاً أو بواسطة النيّات والأفعال. وذلك غالباً لدى مؤسّسات الدراسات والأبحاث أو لدى بعض المؤسّسات الدولية أو الشركات العالمية. والقطاعات الثلاثة معروفة الأهواء والميول في السياسة والتمويل والتوظيف.
ثالثها، عاطفتهم المعلنة، علاوة على مصالحهم السابق ذكرها، تجاه إسرائيل.
ورابعها والمهمّ جداً، شعورهم بشيء من الضغينة حيال “تركيبة كامالا هاريس” بكلّيّتها، واعتبارهم أنّ هذه التركيبة، بالتعاون أو حتى بأوامر من باراك أوباما ونانسي بيلوسي، نفّذت “انقلاب القصر” عليهم وعلى رئيسهم بايدن، فمنعوه من خوض السباق الرئاسي الثاني، وحرموهم من الاستمرار في مواقعهم.
رباعيّ “صهيونيّ”
يروي العارفون في واشنطن أنّ هذا المشهد هو ما يتحكّم الآن في السلوك الأميركي في الشرق الأوسط، وتحديداً في لبنان. كيف؟
لقد اتّخذ رباعيّ “الصقور الملكيّين” قراراً بأن يكونوا “ملكيّين” أكثر من “ملك صهيون” الجديد نفسه. وبالتالي دعم نتنياهو بشكل كامل في كلّ ما يقوم به من بيروت إلى طهران. شعارهم في نهجهم هذا المقولة الأميركية القديمة: “اطلب الصفح لا الإذن”! بمعنى أن تقوم بخطوة ما، وتطلب الصفح عنها لاحقاً إذا فشلت، أفضل من أن تطلب الإذن للقيام بها، ولا تحصل عليه، ويتبيّن لاحقاً أنّها كانت ممكنة وضرورية.
لكنّ الأهمّ أنّ دعم هذا الرباعيّ لنتنياهو ليس مسألة مبدئية أو عاطفية. بل هو نتاج حسابات واقعية دقيقة. يهدفون من خلالها إلى تحقيق التالي:
1- تسهيل مهمّة إسرائيل التي يعتبرونها عن قناعة خطوة تاريخية واستثنائية لتغيير الشرق الأوسط. لسان حالهم أنّ ما يقوم به نتنياهو هو ما تمنّاه كلّ مسؤول أميركي ورغب فيه وحاوله بعضهم، قبل أن يتراجعوا جميعاً عن عجز أو خوف أو إرباك أو قناعة مضادّة لمصالح أميركا العميقة. وبالتالي أبسط الإيمان أن يؤازروا نتنياهو في مهمّته، وأن يُسكِتوا أيّ رأي آخر.
2- كتابة التاريخ بشيء من جنون الملهَمين، مستذكِرين محاولة ألكسندر هيغ سنة 1982، قبل أن ينقلب عليه تيار جورج شولتز، أو تجربة المحافظين الجدد مع بوش الابن، دمية ديك تشيني الرئيس الفعليّ، قبل أن يغرقوا في مستنقع العراق.
فيما يعتبر هؤلاء أنفسهم اليوم الورثة الشرعيين للجنرال المخلوع يومها، كما ورثة وولفوفيتز ورفاقه الخائبين بعد خلعهم صدّام.
هم ذاهبون إلى تصحيح التاريخين السابقين: تاريخ اجتياح 1982 الذي أدّى إلى ولادة “حزب الملالي” في لبنان، وتاريخ احتلال العراق 2003، الذي أسقط المشروع العظيم. هي اللحظة المناسبة والفرصة السانحة الآن لتصحيح ذلك كلّه. والأهمّ، بلا جزمة أميركية واحدة على الأرض.
تطويق هاريس.. ومحاصرة ترامب
3- التطويق المسبق لهاريس. هذا إذا فازت بالرئاسة. بحيث تتسلّم في 20 كانون الثاني السلطة، لتجد نفسها ملزمة بسياسة استكمال ما أشعله الرباعيّ في الشرق الأوسط من حرائق أو فرضه من واقع أرض محروقة.
فيما هم يعرفون سلفاً أنّ فيليب غوردون، ناظر سياسة هاريس الخارجية وعقلها الأوحد، يفضّل العودة إلى سياسة “الصين أوّلاً” الأوباميّة، مع ترك إسرائيل ومحيطها يدبّران أنفسهما وأوضاعهما بما تيسّر لهما.
4- محاصرة ترامب. أيضاً إذا فاز ووصل. فهم يدركون أنّ “مجنون ميلانيا”، على الرغم من كلّ تزلّفه ومداهنته، يحمل ثأراً حيال نتنياهو، ويحمل أولويّات مختلفة، من حرب أوكرانيا إلى عودته الخليجية، وخصوصاً خصوصاً، يحمل مشروع تقليص حجم الإدارة الفدرالية، وضرب ما يعتبره “دولة عميقة” معادية لمدرسته السوقيّة، الخاضعة لمبادئ وول ستريت وأخواتها حصراً.
وهكذا إذا وصل ترامب فسيجد واقعاً شرق أوسطيّاً جديداً مفروضاً عليه. يكون من الأسهل له أن ينسجم معه، بدل تجاهله أو العمل على تغييره.
بهذه الخلفيّات توافقَ رباعيّ واشنطن الحاكم مع نتنياهو على مبدأ أنّ معك ضوءاً أخضر للذهاب حتى النهاية.
وهذا الضوء وهذه النهاية مفتوحان له، من بيروت إلى طهران.
الرّباعيّ مع ضرب إيران
لذلك تمّ تشجيعه على الردّ على ضربة الملالي. وتمّ تنسيق كلّ المقتضى لها، حتى جاء قائد المنطقة الوسطى الجنرال كوريللا إلى تل أبيب ومكث حتى أنجز كلّ شيء، قبل أن يُضربَ الرباعيّ من بيت “أخيهم” وليم برنز. إذ يُهمسُ في واشنطن أنّ تسريب وثائق الردّ الإسرائيلي كان ضربة معلّم من لانغلي، مقرّ المخابرات المركزية، لدفع نتنياهو إلى تأجيل خطوته. ذلك أنّ أيّ تدهور إضافي في الشرق الأوسط يؤدّي إلى تراجع حظوظ كامالا حتماً. فمع كلّ سنتٍ ارتفاعاً في سعر غالون الوقود، يُسجّل ارتفاع نقطة في استطلاعات مؤيّدي ترامب.
هي عشرة أيام إذن. قد لا تكون حاسمة. لكنّها مهمّة.
هكذا هو المشهد الحقيقي الآن في واشنطن. وهذه ديناميّاته المحرّكة العميقة. وهو ما يستفيد منه نتنياهو حتى الثمالة. هو من لا ينقصه انتشاء القوّة و”الإيغو الأرعن” وحسابات شخصه ومستقبله.
سيذهب الرجل حتى النهاية. لا انتخاب الرئيس الأميركي في 5 تشرين الثاني سيوقفه. ولا تسلّمه السلطة في 20 كانون الثاني المقبل سيردعه، ولا أيّ استحقاق زمنيّ آخر منظور.
أمّا خطّته في لبنان، كما يراها أهل واشنطن العارفون، فبسيطة جدّاً: مزيد من التدمير. ومزيد من التهجير. حتى يزول ما كان بلداً أو تتفجّر كلّ فوالق انقساماته الداخلية.
ما العمل؟
يسارع الحريصون في واشنطن للإجابة: إذهبوا وانتخبوا فوراً رئيساً، رئيساً قادراً على الحدّ الأدنى من الثقة لمحاورة العالم ومواجهة نتنياهو وطمأنة الداخل.
إملأوا شغوركم بالتزامن مع ملء شغور البيت الأبيض لأنّ الطبيعة تكره الفراغ، ولأنّ طبيعة منطقتكم لا تملأ فراغاتها إلا بالجنون الموجود والتوحّش المناسب!
التعليقات