عبدالرحمن الحبيب

من أهم وسائل الحصول على إجابة سليمة هو طرح أسئلة واضحة، لكن ليس دائماً فثمة أسئلة واضحة، مثل: لماذا بعض البلدان غنية والبعض الآخر فقير؟ كيف ازدهت دول اقتصادياً وتدهورت أخرى لها نفس الموارد؟ لماذا تمكنت بلدان من تراكم من المزيد الثروة مقارنة ببلدان أخرى؟ رغم الوضوح هنا إلا أن الإجابة الواضحة ظلت عسيرة على الباحثين والمفكرين والعلماء والفلاسفة.

تاريخيًا، ومن الناحية الاقتصادية تم التركيز على تراكم عوامل الإنتاج والعمالة ورأس المال، ومؤخرًا التكنولوجيا والأفكار الابتكارية.. يقول المحكمون في جائزة نوبل للاقتصاد: اليوم، أصبحت أغنى 20 % من البلدان أكثر ثراءً بنحو 30 مرة من أفقر 20 % من البلدان، وكانت فجوات الدخل بين البلدان مستمرة إلى حد كبير على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية.. وتُظهِر البيانات المتاحة أيضًا أن التفاوت بين البلدان في الدخل نمت على مدى المائتي عام الماضية.

في الأسبوع الماضي حصل البروفسورات: دارون أسيموغلو وسيمون جونسون (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، وجيمس روبنسون (جامعة شيكاغو) على جائزة نوبل في الاقتصاد لأبحاثهم في فوارق الرخاء بين الدول وأسباب نجاح بعضها وفشل أخرى، من خلال بحثهم: «الأصول الاستعمارية للتنمية المقارنة: تحقيق تجريبي»، ولدراساتهم حول كيفية تشكيل المؤسسات وتأثيرها على الرخاء.

لماذا كانت الفوارق في الدخل بين البلدان كبيرة جدًا ومستمرة إلى هذا الحد؟ استخدم الحائزون على الجائزة نهجاً بحثياً جديداً للمساعدة في الكشف عن المحركات التاريخية للازدهار أو عدمه، ولتقديم إجابات كمية موثوقة عن هذا السؤال الحاسم للبشرية، من خلال المنهج التجريبي والبيانات التاريخية لتأثير واستمرار الاستراتيجيات الاستعمارية على التنمية الاقتصادية اللاحقة، وقد حددوا الجذور التاريخية للبيئات المؤسسية الاستخراجية التي تميز العديد من البلدان المنخفضة الدخل، حسب ما ذكره المحكمون في الجائزة.

وقالت لجنة نوبل إن الاقتصاديين الثلاثة «أظهروا أهمية المؤسسات المجتمعية لازدهار أي دولة.. وإن المجتمعات التي تعاني من ضعف سيادة القانون والمؤسسات التي تستغل السكان لا تولد النمو أو التغيير نحو الأفضل، وتساعدنا أبحاث الحائزين على الجائزة على فهم السبب». وقال جاكوب سفينسون، رئيس لجنة جائزة العلوم الاقتصادية، «إن الحد من الفوارق الشاسعة في الدخل بين البلدان هو أحد أعظم التحديات في عصرنا، وقد أثبت الحائزون على الجائزة أهمية المؤسسات المجتمعية لتحقيق هذه الغاية».

وقال إن أبحاثهم وفرت «فهماً أعمق كثيراً للأسباب الجذرية وراء فشل البلدان أو نجاحها».. على سبيل المثال، في إحدى الأوراق البحثية الشهيرة التي استشهدت بها لجنة الجائزة، وجد أكيموجلو وروبنسون وجونسون أن هناك «انعكاساً للثروات» في أعقاب الاستعمار الأوروبي للأميركيتين، فقد تحولت أميركا الجنوبية والوسطى من كونهما أكثر ثراءً نسبياً من أميركا الشمالية قبل الاستعمار إلى كونهما أكثر فقراً نسبياً بعده.

لماذا حدث هذا الانعكاس؟ زعم هؤلاء الباحثون أن هذا يرجع إلى الاختلافات في المؤسسات التي أنشأها المستعمرون الأوروبيون، رغم أنه في كلا الحالين تم قمع السكان الأصليين إلا أنه في شمال الولايات المتحدة وكندا، أنشأ الأوروبيون مؤسسات «شاملة» تحمي الحريات الفردية وحقوق الملكية، وتفرض سيادة القانون، وتثقف شعوبهم، وتشجع الإبداع وروح المبادرة.. كلها مؤسسات تخدم الاقتصاد بشكل جيد خاصة مع الثورة الصناعية القادمة، وقد أوضح الباحثون أن السبب وراء إنشاء الأوروبيين لمؤسسات شاملة هو أن أميركا الشمالية كانت تضم عدداً أقل من السكان الأصليين، وبالتالي كان بوسع الأوروبيين أن يستقروا بأعداد كبيرة ويشرعوا في حكم أنفسهم.

أما في أميركا الجنوبية والوسطى، حيث كانت توجد إمبراطوريتا الإنكا والأزتك، كان عدد السكان الأصليين أكبر من أن يتمكن الأوروبيون من الانتقال إليها وحكم أنفسهم؛ وبدلاً من ذلك، قدم المستعمرون الأوروبيون أو حافظوا على مؤسسات «استخراجية» قائمة بالفعل كانت موجهة أكثر نحو استغلال وقمع السكان الأصليين؛ ولم تكن هذه المؤسسات تهدف، على سبيل المثال، إلى حماية الحرية الفردية، أو الاستثمار في السكان وتثقيفهم، أو تشجيع الإبداع، وبدلاً من ذلك، حصلت هذه الدول على مجموعة من المؤسسات التي لن تكون مناسبة لها لتحقيق النجاح في اقتصاد صناعي حديث ومبتكر. ويزعم الباحثون أن هذه الاختلافات المؤسسية استمرت بمرور الوقت، وهو ما يفسر سبب حدوث انعكاس في الحظوظ ــ أي لماذا أصبحت أميركا الشمالية أكثر ثراءً من أميركا الجنوبية والوسطى.. وتجد الورقة قصة مماثلة في بلدان أخرى استعمرها الأوروبيون بمختلف أنحاء العالم.

يذكر الكاتب الأمريكي جريج روزالسكي أنه عندما كتب أكيموجلو وروبنسون كتابهما «لماذا تفشل الأمم» قبل ما يقرب من عقد من الزمان، استخدما الولايات المتحدة كقصة نجاح مؤسسي، وهما يعترفان بأن الأمة لها جانب مظلم: العبودية، والإبادة الجماعية للأميركيين الأصليين، والحرب الأهلية، ولكنها أيضًا من منتجات عصر التنوير، ومكان يتمتع بانتخابات حرة ونزيهة وجامعات ذات شهرة عالمية؛ وملاذ للمهاجرين، والأفكار الجديدة ونماذج الأعمال الجديدة؛ ودولة تستجيب للحركات الاجتماعية من أجل المزيد من المساواة.. لكن، بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات، كيف يشعر أكيموجلو وروبنسون تجاه المؤسسات الأميركية؟ يقول أكيموجلو: «إن المؤسسات الأميركية تتفكك حقًا، وأمامنا مهمة صعبة بشكل مذهل تتمثل في إعادة بنائها.. هذا وقت محفوف بالمخاطر».