تزوّجت في لبنان، قبل نصف قرن، حسب تقاليدهم، وكان الشيخ محمد مهدي شمس الدين، من صدّق عقد الزواج، ومنها نشأت بين الممثل الأعلى للشيعة في لبنان، وبين ليبرالي عنيد مثلي، علاقة طيبة وغريبة في الوقت نفسه، فالقواسم المشتركة بيننا كانت في حدودها الدنيا، لكن حكمته واتساع معارفه جعلا الاختلافات الشديدة بيننا تبدو هامشية. فمن المواقف الأساسية، التي كان يؤمن بها، من أصبح بعدها خليفة «الإمام موسى الصدر»، في رئاسة المجلس الشيعي الأعلى، بعد مقتل الأخير في ليبيا، عام 1978، على يد القذافي، إيمانه العميق بأن الولاء للوطن يسبق الولاء للمذهب، فمن لم يكن مخلصاً لوطنه، لا يمكن أن يكون مخلصاً بالتالي لأية قضية أخرى، ومنها الانتماء المذهبي. وجاء اتفاقنا الثاني من تخوفه الشديد، وكان ذلك في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وقبل رؤية الشرارة الأولى للحرب الأهلية، بسنة تقريباً، من أن أطماع إيران في لبنان، ومحاولتها مد نفوذها، مسألة خطيرة لا يمكن الاطمئنان لها أبداً.

استمر الشيخ محمد يتحدث في مجالسه الرسمية والخاصة، ويخطب ويحذّر ويطالب بالإخلاص للوطن، لكن لم تلتفت إليه إلا القلة، إبان الحرب الأهلية، فقد كان صاحب الصوت الأعلى من امتلك البندقية، المدعومة بالمال، وظل على موقفه إلى أن توفي عام 2001، بعد أن سيطرت الأحزاب والميليشيات، التي كانت تدعمها إيران، بكل قوة على الساحة المذهبية والسياسية، وأصبح تنظيما «حزب الله» وحركة أمل هما المهيمنين، مع رجحان كفة السيد حسن نصرالله، المحسوب بقوة على إيران، ومجاهرته بالولاء المطلق للمرشد، مع امتلاكه طموحاً أكبر من مناوئيه، وكمّاً كافياً من الكاريزما، التي تعشق شعوبنا نوعيتها، وسبق أن رأيناها تتمثل في الكثير من القادة والشخصيات السياسية، طوال التاريخ، الذين يمتلكون قدرة كبيرة على جر الجماهير خلفهم، أو إلى حتفها، خصوصاً تلك المغمسة والمشبعة دينياً، فقد نجح نصرالله في أن يكون «قائداً» لا يُعصى له أمر في منطقته، ومع هذا لم ينجح، طوال أكثر من ثلاثة عقود، في بناء مؤسسة تعليمية أو ثقافية مرموقة واحدة، وفشل حتى في جعل منطقة، مثل الضاحية الجنوبية، مثالاً للتقيّد بالقانون والنظام.. أو حتى بالنظافة، ولو النسبية.

***

لا يمكن حصر الأخطاء الرهيبة، التي وقعت بها كل الميليشيات في لبنان، سواء كانت من هذا الجانب أو غيره، لكن تبقى سقطات «حزب الله» أكثر ضرراً من غيرها، كما كانت للحزب اليد الطولى في الاعتداء علينا في الكويت، وصدرت أحكام باتة صريحة من المحاكم تدين من أجرموا بحقنا باسم الحزب. كما كان للحزب دور معروف في القضاء على كل مناوئيه، ضرباً أو حرماناً أو قتلاً، وكانت تلك طريقته الخاصة في إسكات معارضيه، خصوصاً من الكتّاب والمحررين الليبراليين، ممن لم تتجاوز آراؤهم مقالاً أو كلمة في مؤتمر أو مقال!

وإلى مقال الغد.


أحمد الصراف