حكم حزب «البعث» دِمشق لواحد وستين عاماً (1963-2024)، والشّطر الأكبر منها حكمه جناحه الأخير (1970- 2024). يُبشر مشهد اليوم الأول(8 ديسمبر 2024) خيراً، ويبدو أُخذت الفائدة مِن التّجربة العراقيَّة، ذلك مشهد اليوم الأول ببغداد(9 أبريل 2003) الذي هيأ له الغزوّ، تاركاً المؤسسات بلا حماية، ثم أعلن عن حلّ المؤسسة الأمنيّة، والاجتثاث اِنتقاماً، فحدث ما حدث، ولعلَّ السُّوريين يضعون الدرس نُصب أعينهم، فالحفاظ على الدّولة ومؤسساتها، يحمي المجتمع مِن الاِنتقام السّقام، فكانت بادرة طيبة أنّ يبقى رئيس الوزراء يُدير البلاد، وهو الاستفادة ليس مِن التجربة العراقيَّة حسب، بل واللِّيبية واليمنية أيضاً.
فعل المغول ما لم يفعله الأميركان ببغداد(656هـ)، عندما انتصروا وانتهت الثلاثة أيام مِن الاستباحة، وهذه مِن طبائع الغزاة، ثبتوا الحكومة العباسية السّابقة نفسها، بوزيرها وقاضي قضاتها، بعد إزالة العباسيين عنها، أمّا الغزو الأميركي فكان تحطيماً لكلّ شيء. لذا، مازالت بغداد تئن مِن وطأة ما حدث، فكتبتُ حينها «ليت الغزو الأميركي كان مغوليَّاً»(الشرق الأوسط).
احتفظت دمشق بقوامها التاريخيّ، فأين ما وليت وجهك تجد فيها الأثر قائماً، حافظت حتَّى اليوم على تاريخها، قبل الإسلام وبعده، وليس اختيار آل سفيان لإدارتها جاء مِن فراغ، ذلك لصلاتهم بها في زمن «الجاهليَّة»، عبر التجارة، فبعد ضمها إلى الدّولة الإسلاميَّة صار يزيد بن أبي سفيان والياً عليها، وبعد وفاته، في طاعون «عمواس»(18هـ)، حلّ محله أخوه غير الشّقيق معاوية(ت: 60هـ)، ولأنها كانت تحت حكم الروم والقريبة مِن إمبراطوريتهم، لم يظهر نداً للروم، في الأبهة والسلوك، والروايات تحدثت عن لقاء بين أبي سفيان وهرقل بالشَّام قبل الإسلام (ابن عساكر، تاريخ دِمشق).
بعد أنّ كتب الخطيب البغداديّ(ت: 463هـ) «تاريخ بغداد» أو «تاريخ مدينة السَّلام»- وربَّما كان أول تاريخ للمدن عبر تراجم أهلها- تأثر به عليّ بن الحسن المعروف بابن عساكر(ت: 571هـ)، فصنف«تاريخ مدينة دمشق»، وكان ضخماً، صدر في ثمانين مجلداً، «ذكر فضلها، وتسمية من حلها من الأماثل، أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها»، وبعد أن يأتي بما ذكره النَّسابون عن اشتقاق اسم دمشق، مِن معنى السّرعة «ناقة دمشق أي سريعة»، وجاء شعراً «وصاحبي ذات هباب دمشق/ كأنها بعد الكلال زورق»، يرى ابن عساكر: «فقلت دمشق اسم هذه المدينة ليست عربية، فيما ذكر ابن دريد، بل هي معربة، ولا يقال إلا بغيرها»(تاريخ مدينة دِمشق).
ظلت دمشق عاصمةً للدولة الأموية، لتسعين عاماً وعام(41- 132هـ)، ثم حاول المتوكل العباسي(قُتل: 47هـ) إعادتها عاصمة بدل بغداد، فقيل كان في نفسه هوى أموي، فقال الشَّاعر يزيد بن محمَّد المهلبيّ(ت: 259هـ): «أَظُنُّ الشَّامَ تَشْمَتُ بِالْعِرَاقِ/ إِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى انْطِلَاقِ/ فَإِنْ يَدَعِ الْعِرَاقَ وَسَاكِنِيهِ/ فَقَدْ تَبْلَى الْمَلِيحَةُ بِالطَّلَاقِ»(الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).
بعد زمن صارت دِمشق والشّام مع مصر، وتعاقب عليها سلاطين وأمراء، أشهرهم آل زنكي، ثم بسط الأيوبيون سلطانهم عليها، والأبرز السّلطان العظيم صلاح الدّين الأيوبيّ(ت: 589هـ)، الذي مازال قبره فيها، وحاصرها المغول، ثم تيمورلنك، لكن مع كلّ ما مرّ عليها، يقول زكريا القزوينيّ(ت: 681هـ) وقد زارها بعد الحوادث كافة: «قصبة بلاد الشّام، وجنة الأرض، لِما فيها مِن النّظارة، وحِسن العمارة، ونزاهة الرّقعة، وسعة البقعة، وكثرة المياه والأشجار، ورخص الفواكه والثّمار... وأهل دمشق أحسن النّاس خلقاً وخُلقاً وزيَّاً»(القزوينيّ، آثار البلاد وأخبار العِباد).
بعد الحدث الأكبر، والمرور بحروب لسنوات طويلة، وكثرة اللاجئين خارج البلاد، وما تفرضه تلك الظروف مِن عواطف متضاربة، لعلَّ أهل الشّام يدركون الخراب، الذي حلّ بجوارهم، ويتجهون إلى العمران، ودمل الجراح، فلا يلجأون إلى تقسيم بلادهم، وتطبيق الاجتثاثات، فإن أطلقت لا يتوقف دولابها عن الدَّوران.
*كاتب عراقي
- آخر تحديث :
التعليقات