قال وليد جنبلاط كلمته في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، أياً كانت الخلفيات والأبعاد والمرامي، وانصرف إلى اهتمامات أوسع تاركاً الوسط السياسي اللبناني يجتر مواقف مبهمة ويمارس تقية غامضة محاذراً إعلان مواقف واضحة وصريحة، بانتظار كلمات السر من وراء الحدود أو من كواليس اللقاءات والاتصالات التي يصرّح غالباً بعكس مجرياتها. من سوريا إلى تركيا إلى غيرهما ينتقل وليد جنبلاط مواكباً الأحداث الكبيرة وفاعلاً بقدر ما يستطيع ويمكن. يحضر وليد جنبلاط في المحطات الكبرى. الزعيم الدرزي - الاشتراكي لم يستقل من السياسة عندما اعتزل النيابة ورئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي لمصلحة وريثه ابنه تيمور. في الأزمات يعود جنبلاط إلى الواجهة ليقود بنفسه الحزب والطائفة، لكن أيضاً كزعيم وطني مؤثر في السياسة اللبنانية عموماً وفي العلاقات الخارجية للبلد، متسلحاً برصيد كبير من العلاقات مع شخصيات ودول ورث بعضها عن والده الزعيم كمال جنبلاط وبنى بعضها خلال مسيرته السياسية الطويلة منذ اضطر إلى دخول عالم السياسة من باب اغتيال والده على أيدي المخابرات السورية عام 1977. وليد جنبلاط نسيج وحده بين السياسيين اللبنانيين، مبادر وجريء وصريح وصلب رغم كل ما يقال عن تكويعاته وتغيير مواقفه. هو رجل براغماتي يتكيف مع التغييرات ويقرأ التحولات ويعمل على خطين متوازيين: حماية الطائفة الأقلوية في لبنان وسوريا والوصول إلى تسويات لأزمات لبنان الكثيرة. يتعاطى جنبلاط السياسة على أنها فن الممكن، لا يتمترس وراء مواقف لا يمكن تغييرها. إذا لم يكن ما تريد فاسع إلى ما يمكن، لا خصومات دائمة ولا التزامات دائمة، اللهم الا علاقته برئيس مجلس النواب نبيه بري. عندما يعاند الجميع يظهر ليونة ولا يجد حرجاً في إطلاق المبادرات. فيما الجميع يتردد في تسمية مرشحيهم الى الرئاسة اللبنانية يحسم قراره ويعلنه مرشِّحاً قائد الجيش جوزف عون على رغم مواقفه السابقة غير المحبذة لحكم العسكريين. ليس صبوراً كثيراً وليس من طينة الزعماء اللبنانيين (والعرب عموماً) الذين يعملون ببطء شديد ويقلّبون الأمور إلى حد الملل. المفاجأة لعبته، هو يتخذ قراره ويعلنه وعلى الآخرين اللحاق به. يفضل أن يكون الأول وليس الأخير. لكن جنبلاط المبادر ليس متصلباً ولا ديماغوجياً. رجل مباشر، يصيب ويخطئ، ويملك جرأة الاعتراف بالخطأ والمراجعة. مواقفه كثيرة ومعروفة ولعله الوحيد من قادة الصف الأول الذي اعترف بخطأ الحرب الأهلية، يساير ويساوم ويقايض، لكنه أيضاً يلعب فوق الطاولة. يدرك جنبلاط حجمه وحجم حزبه وطائفته في المعادلة الداخلية ويجيد اللعب على التوازنات وتوظيف بعده الإقليمي والدولي في تعزيز وضعيته الداخلية من دون أوهام. في آذار (مارس) 2010 زار جنبلاط الرئيس السوري بشار الأسد في لقاء كان مفترضاً أن يكون لقاء مصارحة ومصالحة بعد قطيعة طويلة تخللتها مواقف نارية لجنبلاط ضد بشار الأسد طالته حتى في الجوانب الشخصية، بعد محاولة اغتيال مروان حمادة الفاشلة ثم اغتيال رفيق الحريري ومن تبعه من الشخصيات السياسية والإعلامية والأمنية، لكن جنبلاط خرج من لقاء الأسد خائباً وقاطعاً الأمل بإمكان المصالحة معه أو إجراء إصلاح في سوريا. خرج مقتنعاً أن الرئيس السوري مفصول عن الواقع تماماً ولا يملك أي رؤية أو مشروع سوى مشروع التشبث بالسلطة حتى لو كان الثمن سوريا نفسها، وكان جنبلاط يدرك وقتها أن الوضع في سوريا مفتوح على الانفجار الذي لم يتأخر كثيراً. لم يتأخر جنبلاط في تلقف فرصة سقوط الأسد، ترك الجميع ينتظرون، إما استقرار النظام الجديد في سوريا، أو تعثره، كي يبنوا على الشيء مقتضاه، محاذرين "التورط" في خطوة يرونها مبكرة وغير محسوبة. ذهب الى دمشق للقاء الحكام الجدد لسوريا من دون حسابات معقدة. هذا أمر واقع لا بد من التعامل معه بجرأة وانفتاح. حمل هموم طائفته في سوريا، وأيضا نصائح لأحمد الشرع، ربما تكون نفسها التي حملها للأسد ولم يصغ اليها. وخلافاً لخروجه الخائب من لقاء الأسد خرج مرتاحاً من لقاء الشرع، فالجالس الجديد في قصر الرئاسة السورية استمع وأبدى تجاوباً بحسب ما صدر من كلام ومن تسريبات عن الاجتماع. قفز جنبلاط إلى واجهة المشهد عندما انتقل بعد زيارة دمشق للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما يعكس أهمية تحركه والمساحة الممنوحة له للتحرك لبنانياً وسورياً، ليكرس نفسه لاعباً فاعلاً في المفاصل الحاسمة، فيما يغرق سياسيون لبنانيون آخرون في تفاصيل محلية مملة وممضة وبلا جدوى.
- آخر تحديث :
التعليقات