سليمان جودة
الذين وصفوا الهاتف الذكي بأنه «لص العصر» لم يكونوا يبالغون في الوصف، ولا شيء يدل على ذلك إلا هذه الدراسة التي جرى نشرها مؤخراً في بريطانيا، والتي قالت: «إن طول التعرض للهواتف الذكية في العموم يصيب الإنسان بشيء اسمه: تعفن الدماغ!».
الدراسة جرى تداولها على نطاق واسع في الفترة الأخيرة، ومصطلح أو تعبير «تعفن الدماغ» شاع هو الآخر في وسائل الإعلام مع نهاية السنة الماضية وبداية هذه السنة، وكان في شيوعه وكأنه جرس إنذار لعلنا نحترس ونحن نستخدم الهاتف الذكي في كل وقت.
وأما لماذا أطلقت الدراسة مصطلح «تعفن الدماغ» على تداعيات التعرض طويلاً وكثيراً لما يحمله الهاتف الذكي، فلأن ما يحمله هذا الجهاز إلى مستخدمه ليس مفيداً في كل الحالات، وربما لهذا السبب انطلقت التحذيرات مراراً، تدعو الذين يتعرضون للهواتف الذكية إلى التحقق من مدى صحة أو صواب ما يصل إليهم عير الشاشة الذكية.
وقد كان أولاف شولتز، المستشار الألماني المنتهية ولايته، في المقدمة من الذين أطلقوا تحذيراً من هذا النوع، بعد أن لاحظ أن كثيرين ممن يلقاهم يعتقدون في أشياء بناء على ما شاهدوه أو تابعوه في هواتفهم الذكية، وبغير أن ينتبهوا إلى أن ما شاهدوه أو تابعوه ثم بنوا عليه ليس دقيقاً ولا صحيحاً، ولذلك فإن ما يعتقدونه بناء على ما وصلهم من هواتفهم تنطبق عليه القاعدة القانونية الشهيرة التي تقول: «ما بُني على باطل فهو باطل».
يخطر هذا كله في بالك إذا ما طالعت الخبر الذي يقول: إن الدنمارك تدرس بجدية حظر الهواتف الذكية في المدارس، وإن وزير تعليمها خرج على المواطنين هناك فقال: «إن الهاتف الذكي لن يكون له مكان في المستقبل بالحصص الدراسية، ولا حتى في الاستراحة بين الحصص، وبالإجمال لن يكون له مكان في المدرسة».
لقد اشتهرت الدنمارك ضمن مجموعة الدول الإسكندنافية بأنها دول تعيش في مستويات حياتية مرفهة، وأن أبناءها يعيشون في مستوى أعلى مما تعيشه بقية الشعوب الأوروبية، ولكن يبدو مما أعلنه وزير التعليم الدنماركي أن الحياه المُرفهة لها حدود وضوابط، إذا اتصل الأمر بالمدرسة باعتبارها مكاناً للتعليم لا لشيء آخر.
فما كاد وزير التعليم يتحدث عما تدرسه الحكومة وتعتزم الأخذ به في مدارسها، حتى كان وزير الثقافة في الحكومة نفسها قد خرج على الدنماركيين حسب ما ذكر تقرير إعلامي أذاعته «سكاي نيوز»، فقال إن الموضوع لن يتوقف عند حدود حظر الهواتف الذكية في المدارس، وإنما سيصل إلى حظر وصول الهاتف الذكي إلى كل مَنْ هو دون سن الثالثة عشرة من العمر، وحين سألوه عن السبب رد قائلاً: «إن هذا الجهاز يسرق طفولة الصغار، وإن على كل حكومة مسؤولة أن تمنعه عمن هو دون هذه السن، وإلا فإن العواقب في الكبر لكل هؤلاء الصغار لن تكون مما يسُر أحداً على الإطلاق».
وهكذا، فإن الذين وصفوا الهاتف الذكي بأنه «لص العصر» لم يكونوا يبالغون في شيء، بل كانوا يرون القضية بحجمها الطبيعي منذ وقت مبكر، وكانوا يلاحظون تعلق الأشخاص حول العالم بهواتفهم إلى حدود تقترب من الإدمان، وكانوا يقولون إن مثل هذا الإدمان كأي إدمان آخر، لا يمكن إلا أن يكون شديد الخطر على الذين ينخرطون فيه، وهم لا ينتبهون إلى العواقب على المدى الطويل.
ليست الدنمارك هي الدولة الأولى في هذا الاتجاه، فمن قبلها سلكت عدة دول ذات الطريق، وما تعتزم الحكومة الدنماركية الإقدام عليه ليس من وحي الخاطر، ولكنه حصيلة لدراسات وبحوث كانت كلها تستكشف وترى، ولم يكن أمام الحكومة سوى أن تتلقى ما تقول به البحوث والدراسات بجدية تليق بخطورة الموضوع.
لا شيء نحن مدعوون إليه في منطقتنا العربية بشأن هذا الموضوع، سوى الحذر في استخدام الهاتف الذكي، فلا أحد يدعو إلى الامتناع عن استخدامه، ولكن الدعوة لأن يكون الاستخدام في حدود ما يفيد لا أكثر، وإلا فإنه ينقلب إلى لص يتسلل بتداعياته إلى عقلك بغير أن تنتبه، ويسرقك وأنت مستغرق فيه، وكأنه يشاغلك حتى يفرغ مما يريد أن يسرقه!
التعليقات