حين تبدأ الحكومات فقدان شعبيتها يُستحسن أن تنصت للانتقادات بدلاً من حجب الشفافية. ففي خطوة غير مسبوقة، أبلغت حكومة كير ستارمر الصحافيين البرلمانيين بإلغاء لقاءات بعد الظهر في داوننغ ستريت المعروفة بـ«لوبي بريفينغ»، مستغلة عطلة أعياد الميلاد، وتعليق أعمال البرلمان، آملة في حصر الاحتجاج في وستمنستر، رغم تأثير القرار على الأمة بأكملها. التعديل يعني تقليص نحو 40 في المائة من الوقت الذي تخضع فيه السلطة التنفيذية للاستجواب اليومي والمتابعة والضغط المتواصل. في اللقاءات يُستجوب المتحدث باسم رئيس الحكومة ومستشارو رئيس الوزراء، وأحياناً مستشارو الوزارات المعنية، من المجموعة الصحافية التي تُحاول النفاذ وراء الإجابات المراوغة.
بقاء النقاشات خارج النشر العلني ليس نقصاً في الشفافية، بل إحدى أدواتها. فغير المنسوب يوسع مساحة الصراحة، ويتيح اختبار الحجج وقياس ردود الفعل. وعلى امتداد تسعة عقود، انتقلت خلاصات اللقاءات إلى رؤساء حكومات ووزراء، فأُعيد النظر في سياسات، وتراجعت قرارات. أي كانت الصحافة، قبل النشر، أيضاً أداة ضغط ديمقراطية على السلطة.
استبدال مؤتمرات صحافية على الطريقة الأميركية بالتقليد ليس تحديثاً بريئاً، لأنه يجعل الحكومة تختار مَن يسأل ومتى، بلا متابعة أو ضغط عند الإجابة المراوغة؛ فما يبدو شفافية على شاشة التلفزيون يكون فعلياً سيطرة على المشهد.
دور الصحافة في الديمقراطية تاريخي عندما دعمه إدموند بيرك داخل البرلمان عام 1771 لنقل وقائع جلسات مجلس العموم بوصفه أحد شروط الحرية السياسية. وبعد ذلك بسبعين عاماً، صاغ توماس كارلايل في كتابه «الأبطال وعبادة البطل» عام 1841 العبارة التي خُلّدت في الفكر السياسي، قائلاً إن بيرك تحدّث عن ثلاث سلطات في البرلمان، «لكن في منصة الصحافيين سلطة رابعة تفوقها جميعاً». وكتب توماس ماكولي عام 1828 أن منصة المراسلين أصبحت فعلياً ركناً من أركان الدولة. ولم تكن تلك استعارات نظرية؛ فقد جلس في هذه المنصة الروائي الأديب تشارلز ديكنز حين عمل مراسلاً برلمانياً في ثلاثينات القرن التاسع عشر.
وجود المنصة الصحافية دعامة برلمانية أساسية، لأن مساءلة الحكومة تحتاج إلى ذاكرة وإلحاح وسياق. وليس مصادفة أن يوجّه رئيس مجلس العموم أكثر من توبيخ علني للحكومة لإعلانها سياسات خارج البرلمان أو خلال عطلته، ما يحرم النواب من النقاش. وهذا نمط يعكس نزعة متنامية لدى حكومة ستارمر باعتبار مراجعة الصحافة البرلمانية عائقاً لا ضمانة.
ويزامن التضييق على الصحافة تزايد عدم الرضا الشعبي. فقرابة 1000 من أصحاب الحانات قرروا منع نواب الحكومة من دخولها. والحانة المحلية تقليدياً ساحة اجتماعية وسياسية أهلية، خصوصاً في الأرياف والبلدات الصغيرة للقاء النائب بناخبيه؛ وحين ينسحب القبول الاجتماعي بهذا الشكل فالأمر ليس احتجاجاً رمزياً، بل قطيعة. وقد مُنعت وزيرة المالية من دخول حانتها المحلية، وبحكم الواقع بات رئيس الوزراء نفسه غير مرحّب به في أماكن عامة كثيرة. المقارنة الوحيدة التي يستحضرها كثيرون تعود إلى فترة بوريس جونسون، لكنها كانت حالات متفرقة لا مناخاً عاماً.
هذا المشهد يرتبط بسياق أوسع: تراجع العمال في استطلاعات الرأي، وتقدّم قوى جديدة في المجالس المحلية، ثم قرار تأجيل انتخابات محلية. التبرير إداري، لكن القراءة السياسية واضحة: حين تكون الحكومات واثقة لا تخشى صناديق الاقتراع، وحين تهتز تتلاعب بمواعيد الانتخابات.
الأكثر إثارة للقلق صمت حزب «المحافظين». لو كان التأجيل مسألة مبدئية لارتفع صوت المعارضة، لكن الغموض ساد، وللمحافظين، أثناء حكومتهم، سوابق في مراوغة الصحافة وحجب المعلومات.
ويزداد القلق مع أسلوب حكم يتسم بمركزية القرار في دائرة ضيقة داخل داوننغ ستريت، رغم تكرار إعلان ستارمر المسؤولية الجماعية لمجلس الوزراء. هذا يعيد إلى الأذهان تجربة «حكومة الأريكة» خلال الولاية الثانية لتوني بلير، في 2003، وبلغت ذروتها في مواجهة علنية بين الحكومة و«بي بي سي» حين انكشف تضليل داوننغ ستريت الرأي العام والصحافيين تمهيداً للتدخل العسكري في العراق.
وخلال الأسابيع الماضية طُرحت في لقاءات «اللوبي» (التي جرى تقليص 40 في المائة منها) الأسئلة الأشد حساسية: هل يُشكّل تأجيل الانتخابات المحلية (التي يخشى ستارمر خسارتها أمام حزب «الإصلاح») سابقة؟ أهي إجراء استثنائي أم «بروفة» لما هو أكبر مثل تأجيل انتخابات 2029 البرلمانية؟ هذا السؤال طُرح مباشرة على وزيرة في مقابلة إذاعية هذا الأسبوع، ولم تُقدم نفياً قاطعاً للسؤال الدستوري الطابع.
التاريخ يعلّمنا أنّ الديمقراطيات نادراً ما تنتهي بانقلاب مفاجئ؛ لكنها تتآكل تدريجياً: بترويض الإعلام الحر، وتضييق المساءلة، وتعويد المجتمع على خسارة الحريات خطوة خطوة. وحين تصبح مواعيد الانتخابات قابلة للتفاوض، يكون مسلسل الضرر الدستوري قد بدأ بالفعل.
















التعليقات