ها هو رئيس الوزراء الايطالي "ماتيو رينزي" الذي تولى رئاسة الوزراء في شهر فبراير 2014م وعمره 39 عاما (اصغر رئيس وزراء في تاريخ ما بعد وحدة ايطاليا)، يسير على خطى الرئيس الفرنسي السابق الجنرال "شارل ديغول"، ويستقيل من منصبه عندما صوتت الأغلبية بـ (لا) على مقترحاته بإجراء بعض الاصلاحات الدستورية التي كان يراها ضرورية لتسهيل إدراة الدولة.
قبل فترة، اعلن "رينزي" عن عزمه اجراء استفتاء على مقترحاته الاصلاحية لتعديل الدستور، وتعهد بالاستقالة من منصبه في حال عدم تصويت الاغلبية لصالح هذه المقترحات. تتمحور التعديلات المقترحة حول تقليص صلاحيات "مجلس الشيوخ" وتدعيم سلطة رئيس الورزاء والحكومة، حيث ان "مجلس الشيوخ" يتمتع بمكانة ونفوذ قويين في المشهد التشريعي الايطالي، بصفته ثاني روافد السلطة التشريعية بعد رئيس الجمهورية.
جرى الاستفتاء يوم الاحد، الرابع من الشهر الحالي، وكانت نتيجة الاستفتاء هي ان 59% من الايطاليين قالوا (لا) للاصلاحات المقترحة، مقابل 49% قالوا (نعم). يعتقد عدد كبير من الايطاليين الذين قالوا (لا)، ان الاصلاحات المقترحة تجمع العديد من الصلاحيات بيد رئيس الوزراء، وتقلل من مستوى صلاحيات السلطات الجهوية والمحلية، مما يجعل الحكومة المركزية تتحكم بسن السياسات العمومية في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والتجهيز والنقل.
كما يعتقد الرافضون ان هذه المقترحات تهدف الى تقوية شوكة رئيس الوزراء والحكومة في مواجهة البرلمان، وتفقد ايطاليا احد اهم معاني الديمقراطية فيما يتعلق بخاصية توازن السلطات الثلاث في الدولة. في المقابل، ترى الحكومة ان الهدف من الاصلاحات المقترحة هو انعاش الاقتصاد الايطالي عن طريق ترشيد الانفاق العمومي في ظل الازمات الاقتصادية والهزات المالية التي يشهدها العالم بأسره.
تؤكد الاستقالات المتكررة التي يقدم عليها السياسيون في الدول الغربية على روح المسؤولية التي يتحلى بها هؤلاء المسؤولون، كما تعكس ثقافة تحمل المسؤولية والاعتراف بالخطأ المهني، والهدف من كل هذا هوإعلاء شأن قيمة المسؤولية والالتزام الأخلاقي والأدبي أمام الرأي العام، أي الشعب الذي هو مصدر السلطات. التطور السياسي والمؤسساتي في الدول الديمقراطية أصبح يسمح بتحديد واضح ودقيق للمسؤوليات، ويجعل من رئيس الوزراء وحكومته مسؤولين مسؤولية كاملة سياسيا واخلاقيا وادبيا عن السياسات التي ينفذونها، وإذا فشلت الحكومة في تأدية واجباتها فإنها تستقيل.
حين يستقيل رئيس الوزراء او الوزير المختص او الوزارة بأكملها لأي سبب كان، تعتبر هذه الاستقالة بمثابة اعتذار للشعب الذي منحهم الثقة لتولي إدراة شؤون البلاد، بإعتبارهم انهم الأنسب والأجدر من الآخرين لهذه المسؤولية. والاعتذار في حد ذاته قيمة اخلاقية وادبية تنطوي على قدر كبير من الشجاعة، لذلك غالبا ما يحتفظ الشعب لهؤلاء المستقيلين بالتقدير والاحترام، ويغض الطرف عن الاخطاء او التقصير الذي بدر منهم.
قالت الاغلبية في كل من فرنسا وايطاليا (لا) للاصلاحات المقترحة، فانحنى الزعيمان "ديجول" و "رينزي" احتراما لإرادة شعبيهما ولمبادئ الديمقراطية التي يؤمنان بها، وتنحيا عن الرئاسة بكل هدوءوتواضع. السؤال: متى نرى مثل هذا السلوك الانساني والحضاري والاخلاقي يسود في دولنا العربية؟
التعليقات