أسوأ مافى هذه الفواجع أنها تفسح قسرا مكانا متسعا لمشاعر الغضب والحزن والكراهية والاحباط، مشاعر مؤلمة تسكن الصدور وتنكأ جراح قديمة كانت على وشك الالتئام ،ومن ثم تسيل الدماء مجددا، ومن سوءات هذه الفواجع أيضا أن الانسان يهتزكيانه بعنف ، وتهتز معه كل الثوابت الكامنة فيه، ونحن هنا نمهد للقارئ حتى يتعرف على مناخ الحزن الردئ الموجع للقلوب الذى يحيط بنا ونحن ننقر حروف هذا الطرح لعله يلتمس لنا ولو قدر من عذر، اذ ربما وتحت ضغط الالم يخرج عنا غصبا تعبير أو وصف صادم قد يؤذى مشاعر أو لايلائم أصول النشر ، فالدماء والاشلاء فى كل الارجاء صبغت المشهد باللون الأحمر القانى ،مشهد تغيم معه الرؤى،مشهد يتوه فيه الانسان بحثا عن الحقيقة ، مشهد تدليس وتزوير الاشياء ولى أعناقها ، مشهد تمجيد العنصرية والبغض والكراهية والابادة باعتيارها سنن الهية مقدسة.

وهاكم بانوراما من شمال الكوكب وجنوبه ،غربه وشرقه ، حرب مستمرة ومستعرة منذ قرون طويلة ، حرب بالوكالة الزائفة عن الله صراع على احتكاره والحديث باسمه وانتزاع اختصاصة الازلى الابدى فى الدينونة والحساب ، اختصاصه فى اصدار الاحكام النهائية الباته بعدله المطلق على خلقه ، كل خلقه ، حين يمثلون أمامه فرادى كل على حده يقدم حسابا عن نفسه ، لاضمن فرق ولاضمن شيع ولا ضمن أمم ولا ضمن أحزاب ولا دول ولاميليشيات فهو مالك يوم الدين يوم الحساب العظيم . 

واللذين يعتقدون أن ما يقترفونه من جرائم يقربهم من الههم هم فى الحقيقة واهمون ، فهم دون أن يدروا يشوهون صورته ،فهم يصورونه اله لا يشبع من الذبائح البشرية التى تقدم على مذبحه قرابين دموية كل يوم ، يصورونه اله نهم لايكتفى ويطلب المزيد ، يصورونه اله ضعيف يحتاج الى عبيدمناصرين ومدافعين ومشجعين ،ونسوا أو تناسوا أن الاله الحقيقى لا يحتاج الى عبودية البشر الضعفاء الذين هم فى الاصل خليقته ، بل البشر هم المحتاجين الى ربوبية الاله أى عدله ورحمته وحنوه على جبلته التى صنعتها يداه ، وهؤلاء اختذلوا كل طرق الخالق فى هداية خليقته الى سبيله فى وسيله واحدة دون غيرها وهى القتل ولا شبئ غير القتل ،ونسوا أو تناسوا أنه خلق الناس باراده حرة من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر حتى يقدم كل انسان حسابا عن نفسه ، ويقدم حسابا عما فعله بها وكيف استثمرها هذه الهبة الالهية التى منحه اياها وميزه بها عن سائر الكائنات وهى هبة العقل والحرية .

ويلاحظ أنه عند اقتراب العام من نهايته تنشط خلايا القتل والذبح والتفجير لحصد أرواح (أعداء الله) واطفاء الفرحة فى القلوب واشاعة الحزن والالم فى النفوس ، فقد اقترب موعد (الحساب الختامى) وعلى كل فصيل أن يقدم قائمة بعدد الارواح التى أزهقت و(براميل) الدم التى أهرقت وهل حقق أو لم يحقق المستهدف المخطط له أم تجاوزه ، نعم فى مثل هذا التوقيت من كل عام حيث يتم (تقفيل الميزانية ) واكتشاف مابها من فوائض أو عجوزات ،واستعراض أبوابها بالتفصيللتبيان تناسب الوارد مع المنصرف وتقديم الكشوف للرعاه الممولين لابداء ملاحظاتهم عليها ،وهل ماتم من قتل وحرق وتفجير وتدمير فى كل أرجاء الكوكب كاف لارضاء الاله الذى يزعمون أنه كلفهم بهذه المهمة ، أم أنه غاضب عليهم لنقص الحصيلة النهائية ومن ثم يتم تعزيز الميزانية وتعديل بند المستهدف لزيادته. فمن تمت ابادتهم من الشيعة والعلويين والعراقيين والسوريين والليبيين والافارقة والباكستانيين والافغان والفرنسيين والبلجيك والالمان والاقباط وكل المسيحيين والكفرة وغيرهم وكل من (خرج عن الملة) فى كل مكان ، كل هذه الجثث المحترقة والمتناثرة والغارقة والمباده فى قاعات العزاء وقاعات الافراح والكنائس والاسواق والمتنزهات وحتى المستشفيات كل هؤلاء الأطفال والنساء والعجائز والشباب والمرضى ،كل هذه الأعداد لايتناسب عددها مع حجم المخصصات التى رصدت لهذا البند، بند ماينفق فى سبيل الله وهو البند السرى الحصين فى ميزانيات هذه الكيانات التى تمول كل هذا النشاط العنصرى فى كل الكوكب ،مليارات أهدروها من حقوق شعوب مغلوبة على أمورها مليارات أهدروها فى سبيل وهم لا وجود له الا فى أخيلتهم المريضة .

ومع الحاجة لابتداع طرق جديدة للقتل تتناسب مع المرحلة ولزيادة الحصيلة تم تجاهل وصية (احسنوا القتل ) ،فتفتقت أذهانهم عن أدنى درجات الغيلة والغدر والخسة والنذالة وهى دهس الناس الامنين فى الشوارع بالشاحنات ،أو تلغيم الاطفال وتفجيرهم عن بعد ،أو اخفاء الخناجر فى طيات الملابس وطعن الأبرياء ثم الفرار . 

هذاهو المشهد ايها القارئ العزيز وسوف يظل على حاله فقد ضمرت خلايا الضمير الانسانى ولم يعد يهمه ايقاف نزيف الدم ونزيف الكرامة البشرية، فبسبب هذه الخيالات المريضة أصبح عشرات ملايين المشردين فى الخيام فى صقيع الصحارى ،وغيرهم آلاف يبتلعهم البحر كل يوم هربا من الجحيم ، وملايين مأسورون فى أوطانهم غرقى فى مستنقع الجهل والمرض والفقر والغيبيات ، ومع أن العالم انتفض على هتلر وأتباعه واستئصلهم واستئصل فكرهم أو كاد ،الا أن العالم يقف صامتا أمام مايقترفه هؤلاء العنصريين من جرائم ، جرائم وحشية بشعة أصبحت تضاهى ان لم تكن تفوق ما اقترفه هتلر وموسولينى وغيرهم مجتمعين ،علما بأن هتلر لم يختبئ خلف عقيدة أو يرتدى عباءة دين أو يصبغ دعوته بالقداسة ،عكس هؤلاء الذين يلبسون جرائمهم عباءات تقديس مضلله بنصوص مات أصحابها من قرون ودفنوا فى قبور وتحللت جثامينهم ،لكن أذرع أخطبوط طويلة تخرج من هذه القبور وتتحكم فى رقاب بشر ولا يستطيعون الفكاك منها اللهم الا معجزة من السماء .