قبل أن أدلف إلى الحديث عن موضوع شائك ومعقد احتار في طلسمه كبار المتخصصين والبحاثة وهو موضوع المخابرات السوفياتية (KGB) ، فإنني أرغب من القراء الكرام في أن يتوقفوا هنيهة معي أمام ما قد يكون قاعدة من قواعد علم النفس، ولعل للأطباء النفسانيين فيها أكثر من قول، وهي أن معادن الرجالأو ما يسمى بعلم النفس ال (EGO) أو حقيقة الذات أو الذات الباطنية، تظهر في حالتين فقط - في الحالة الأولى وهي عندما يفقد الرجل السلطة على نفسه كما في حالة السجين، فبين السجناء قليلون منهم من يحتفظ ببأسه ولا يفقد السلطان على نفسه ويقاوممختلف الضغوطات التي تنال من ذاته أو من كبريائه، أما غالبية السجناء فإنهم يفقدون كل معاني الرجولة والكبرياء وتظهر ذواتهم على ما هي عليه من وضاعة . وفي الحالة الثانية وهي عندما يمتلك الرجل السلطة المطلقة التي لا تحدها اية حدود حيث تتكشف معادن الرجال فإما أن يكون الرجل في كمال إنسانيته وقديسميه البعض "الدكتاتور العادل"، وإما أن يفقد كل خصائص الإنسانية ويتحول إلى وحش كاسر، وهو ما حدث في رئاسة المخابرات السوفياتية (KGB) .

هذا ما تعلمته أنا على أرض الواقع خلال فترة السجن الطويلة في سجون رام الله وعمان والجفر الصحراوي والزرقاء العسكري، كما من خلال دراستي لتاريخ المخابرات السوفياتية . هذه القاعدة الذهبية التي أرجومن القراء الكرام أن يتوقفوا عندها بعناية فائقة حيث هي وحدها التي تضيء على طلسم المخابرات السوفياتية وتفككه .

مما لا حاجة للتساؤل حوله هو حقيقة أن جهاز المخابرات في أية دولة يعمل أساساً في حماية النظام في تلك الدولة ومن أجل ذلك تُعضد دائرة المخابرات بالإستقلالية التامة لا يربطها رابط آخر غير ربطها برئيس الدولة مباشرة . أما المخابرات السوفياتية (KGB) فالحال فيها كما حال مختلف دوائر دولةدكتاتورية البروليتاريا وهو أن العاملين فيها ليسوا موظفين يعملون لقاء الأجر كما هو حال رجال المخابرات في الدول البورجوازية بل هم شيوعيون يكرسون كل جهودهم من أجل الوصول إلى الشيوعية بعيداً عن كل انتفاع شخصي ؛ بل إن هذا الأمر يكتسي أهمية قصوى في دائرة المخابرات السوفياتية تحديداً حيث لا يعمل فيها غير الشيوعيين المجربين الخُلّص .

قيادة الدولة المتمثلة بستالين نفسه لم تقصر في هذا الشأن فجميع الذين تسلموا إدارة المخابرات كانوا من الصفوف الأولى في الحزب الشيوعي، فإما أن يكونالرئيس عضو لجنة مركزية أو حتى عضو مكتب سياسي حيث يكون العضو قد كدح طويلاً في سبيل قضية البروليتاريا قبل أن يتأهل ليكون رئيسا لمجلس رئاسة المخابرات أو حتى عضواً فيه .

لكن كيف يمكن للمرء أن يصدق بأن المخابرات السوفياتية عملت معظم عمرها ضد السوفييت، ضد قضية البروليتاريا، ضد الشيوعية !!

لا يمكن تصديق ذلك إلا إذا أخذنا في الإعتبار ما كنت قد كتبته قبل سنوات وهو .."أن يتحول المرء من بورجوازي وضيع إلى بروليتاري هو أمر في غاية الصعوبة، وهو ليس مجرد خيار يختاره الإنسان بكل وعيه، بل هو تغيير بنيوي (Metamorphosis) لا يكتمل إلا عبر إلغاء لا يتوقف للذات” .

من مراجعة سريعة لتاريخ المخابرات السوفياتية يتبيّن بصورة صارخة أن المخابرات السوفياتية قد حظيت برئيسين فقط من الطراز الشيوعي الرفيع الذي أنكر كل ذاته خلال الفترة الممتدة من العام 1918 – 1934 وقد تجلى معدن الرئيسين فلكس دزيرجانسكي وفياتشسلاف منجانسكي معدناً بولشفيا صافياً في خدمة القضية الشيوعية ؛ وأما بعد وفاة منجانسكي في العام 1934 وحتى انهيار النظام السوفياتي 1991فما من رئيس للمخابرات إلا وانحط مفتقداً كل المعايير الإنسانية وليس البورجوازية فقط .

 

كان لينين قد رسم في 20 ديسمبر 1917 أن تتشكل مخابرات سوفياتية تأخذ على عاتقها حراسة الثورة،وأوكل تلك المهمة النبيلة والصعبة بذات الوقت في تلك الظروف العصيبة إلى بطل العمل الشيوعي البولشفي العريق فيلكس دزيرجانسكي (Dzerzhinsky) وهو أحد أعضاء المجلس العسكري الخمسة الذي تولى تنفيذ انتفاضة أكتوبر 1917 بنجاح تام دون إراقة نقطة دم واحدة . وكان دزيرجانسكي من أصول بولندية وقد غدا مناضلاً ماركسياً قبل أن يبلغ الثامنة عشرة من العمر في 1995 وخاض معارك طبقية لم تتوقف سواء قبل أن يتشكل " حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا " – الحزب الشيوعي فيما بعد – أم بعد ذلك . لقد تعرف على كل السجون والمنافي في روسيا القيصرية وصمد دون أن تنال من بأسه كل صنوف التعذيب التي تعرض لها . غير أن مرض السل نال منه أخيراً وتوفي في العام 1926 . المخابرات السوفياتية بقيادة هذا البطل الشيوعي العريق قامت بوظيفتها بصورة استثنائية وتغلبت على مختلف أعداء الثورة الشيوعية الكثيرين . فكان أن قال فيها عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ليف كامينيف .. "ما كنا لننجح بالقيام بأعمالنا الشيوعية لولا مساعدة المخابرات" .

كان فياتشسلاف منجانسكي (Menzhinsky)النائب الأول لدزيرجانسكي وقد حل محله في رئاسة المخابرات السوفياتية حال وفاته ؛ وقد قام هذا البولشفي العريق بدور رئيسي في حماية الثورة سواء من حيث ملاحقة التروتسكيين وكشف أعمالهم التخريبية أو من حيث ضبط الأنشطة المالية لأعداء الثورة . كان لمنجانسكي فضل كبير في نجاح ستالين بالعبور بالثورة الاشتراكية من المضيق الصعب والخطير فيما بين 1927 و 1932 حيث واجهت الثورة خلال تلك الفترة الصعبة أخطر عدوين للثورة متمثلين أولاً بكبار الفلاحين (الكولاك) الذين هبوا لخنق الثورة عن طريق محاصرة البروليتاريا بالتجويع، ثم بالتروتسكيين الذين خططوا لخطف المشروع اللينيني والانحراف به إلى مثل ما بات اليوم مشروعاً للبورجوازية الوضيعة .

المخابرات السوفياتية التي خدمت فعلاً المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية انتهت بوفاة فياتشسلاف منجانسكي في العام 1934 بعد أن أدار عمله في رئاسة المخابرات طريح السرير في آخر سنواته . 

في العاشر من مايو أيار 1934 حين أغمضت عينا منجانسكي إلى الأبد تحولت المخابرات السوفياتية منذ ذلك اليوم الأغبر وحتى اليوم من العمل لحراسة الثورة الإشتراكية إلى العمل ضد الثورة الإشتراكية .كان النائب الأول لمنجانسكي هو جانرخ ياغودا (Genrikh Yagoda)فأصبح الرئيس الجديد للمخابرات السوفياتية . ياغودا كان من الشيوعيين البلاشفة في العام 1911 وحارب في الحرب الأهلية فبات في العام 1926 نائبا للرئيس منجانسكي ويقوم بمعظم الأعمال نظرا للحالة الصحية المتردية للرئيس وهكذا كان هو الرئيس حال رحيل الرئيس منجانسكي .

لم ينتهِ العام 1934 قبل اغتيال الرجل الثاني في الحزب سيرجي كيروف الأمر الذي دعا ستالين لمراجعة بنية الحزب وطرد أكثر من مليون عضو منه . التحقيقات التفصيلية الدقيقة في قضية اغتيال كيروف غير المتوقع أفادت إلى أن الثنائي زينوفييف – كامينيفعضوا المكتب السياسي للحزب كان لهما ضلع في الحادث، كما أفادت أن ياغودا المدير الجديد للمخابرات كان قد قصر بصورة فاضحة في قضية كيروف مما تسبب في تنحيته من وظيفته واسنادها إلى نائبة نيكولاي إيزوف (Nekolai Yezhov). 

في تصفيات 1937 دلت التحقيقات أن ياغودا لم يكن متواطئاُ مع الثنائي زينوفييف – كامينيف واتصالهم بتروتسكي فقط بل كان أيضاُ مجرما حقيراً إقترف أفظع الجرائم كان منها تسميم الكاتب العالمي الشهير مكسيم غوركي كما تسميم ابن مكسيم بالتبني ليحظى بأرملته الجميلة، كما اعترف ياغودا بأنه كان يسمم الرئيس منجانسكي كي يموت سريعاً ويحل محله فكان إعدامه. وثمة من يعتقد أن ياغودا إئتلف مع زينوفييف وكامينيف ومع تروتسكي لأن أربعتهم من اليهود .

لم يكن رئيس المخابرات خليفة ياغودا، نيكولاي ايزوف 1936-38 أقل إجراما من سلفه . لقد اعترف هذا القزم لدى اعتقاله (طوله 5 أقدام) أنه تدبر إعدام 14 ألف مواطنا بينهم مئات من أقاربه وكثيرون من الشيوعيين الأنقياء . ليس من تفسير لمثل هذه الحالة الإستثنائيةسوى التخطيط الشيطاني حتى الوصول إلى القضاء على ستالين نفسه وعلى الظاهرة الستالينية المتمثلة بتكريس النهج اللينيني وتصفية الحزب من العناصر المتقلقلة في مواجهة الفاشية الأوروبية . من هنا يتضح بكل جلاء أن اتهام ستالين بجريمة التصفيات بالجملة(The Great Purge) إنما كانت في حقيقتها عملية تصفية ستالين والستالينية .

خَلِف هذا المجرم مجرم أعرق في الإجرام وهو لافرنتي بيريا . لقد نجح بيريا في ارتقاء درجات السلم حتى غدا مارشال الاتحاد السوفياتي عضو المكتب السياسي ونائباً لرئيس الوزراء . قام بيريا بوظائف كبيرة ومهمة في حماية الدولة السوفياتية ومنها على الأخص مقاومة العدوان النازي وتنظيم المقاومة المدنية . من تلك الأعمال كان تشكيل تنظيم خاص باليهود باسم "اللجنة اليهودية ضد الفاشية" . رعايته لتلك اللجنة اليهودية استدعته مخالطة اليهود ليستقر لديه فكرة شيطانية تتمثل باستخدام اليهود في تحقيق أغراضه الإجرامية الخاصة ؛ فقبل انتهاء الحرب شكل منظمة من الأطباء اليهود أدخلها في الجهاز الطبي الخاص بالكرملن ليكلفها بإنهاء حياة أي من قادة الحزب والدولة يعينه لها .

قامت هذه المنظمة المعادية بإنهاء حياة سكرتير الحزب الشيوعي في موسكو، رئيس رابطة الكتاب السوفييت الكساندر شتشرباكوف في العام 1945 وكذلك الرجل الثاني في الحزب الذي حل محل كيروف وهو أندريه جدانوف في العام 1948 . في يناير 1953 رفعت الطبيبة المتخصصة في علم الأمراض (Pathologist) في المركز الصحي في الكرملين "ليديا تمشوك" مذكرة إلى الرفيق ستالين تؤكد فيها أن عدداً من أطباء المركز يتآمرون على صحة القادة السوفيات عن طريق وصفات طبية تفاقم المرض ولا تعالجه . في الحال أمر ستالين بإجراء التحقيقات اللازمة واعتقال المتآمرين . ولما تبيّن صحة المعلومات في مذكرة الطبيبة ليديا تمشوك قررت لجنة جائزة لينين منح الطبيبة وسام لينين وهو أرفع وسام في الدولة السوفياتية تقديراًلإخلاص الدكتورة في العمل الشيوعي .

ليس مصادفة أن يكون معظم الأطباء المتهمين من اليهود، فمن الطبيعي في هذه الحالة الإفتراض أن بيريا هو من جاء بهم إلى مستشفى الكرملين وهو من كان قد اشتغل مع الجماعات اليهودية أثناء الحرب . ليس من شك في أن التحقيقات المتواصلة بشكل حثيث مع الأطباء المتآمرين كانت ستصل إلى رأس المتآمرين وهو وزير الأمن لافرنتي بيريا، وملاحظة ستالين لأحد أعضاء المكتب السياسي بأن بيريا لم يعد يقوم بوظيفته كما يجب كانت تشير إلى مجرى التحقيق .وباعتقادي أن العشاء الذي دعا إليه ستالين الأعضاء الأربعة في المكتب السياسي، خروتشوف ومالنكوف وبولغانين وبيريا، في 28 شباط فبراير 1953 كان يهدف إلى استخلاص بعض الإشارات من بيريا تشير إلى علاقته بالمؤامرة - ستالين كان يستعمل مثل هذا الأسلوب في الكشف عن الحقائق المخفية - وإلا لما كان دعا بيريا إلى العشاء وثمة شكوك تحوم حوله !!

ستالين كان يتابع التحقيقات باهتمام بالغ وكان بيريا وزير الأمن يعلم ذلك بالطبع ولذلك قرر أن يتغدى بستالين قبل أن يتعشى ستالين به فكان أن دس سم الورفارين (Warfarin)في شراب ستالين أثناء ذلك العشاء التاريخي . يقول رفيق العمر لستالين فياتشسلاف مولوتوف أن بيريا تفاخر أمامه بأنه هو من أنهى حياة ستالين ؛ وما يسند ذلك هو أن بيريا أطلق جملة الأطباء المتآمرين من السجن بعد أيام قليلة من موت ستالين وأعلن بطلان القضية ولفق تهمة التضليل في التحقيق لكبير المحققين وأسرع في محاكمته وإعدامه . ويرى مولوتوف أن مالينكوف كان شريكاً لبيريا في الجريمة كما أن خروشتشوف كان على علم مسبق بها . إعتقال بيريا بعد ثلاثة شهور ومحاكمته سرياً خلافاً للنظام وإعدامة تبرر بقوة اتهامات مولوتوف .

 

للمرء أن يتساءل هنا بالطبع عن أية شيوعية يمكن أن يحققها هؤلاء "الشيوعيون" المجرمون القتلة !! الجواب على مثل هذا التساؤل هو .. لا عجب، ففي السلطة المطلقة تتكشف معادن الرجال . وتتحتم الإشارة هنا إلى أن البورجوازية الوضيعة هي دائما السباقة إلى قيادة العمل الشيوعي وهي التي قدمت ماركس وإنجلز ولينين وستالين ودزيرجانسكي ومنجانسكي كما قدمت بالمقابل ياغودا وإيزوف وبيريا وخروشتشوف وأندروبوف وغورباتشوف وجميع أعداء الشيوعية الذين استولوا على السلطة فيما بعد ستالين . صراع البروليتاريا ضد البورجوازية الوضيعة يفوق كل الصعوبات وكل القدرات، وها نحن نرى هزائم البروليتاريا في مواجهة البورجوازية الوضيعة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم .