الوصف الدلالي الذي يسند إليه معنى الرجوع إلى الله تعالى لا يخرج عن نوع المعرفة به جل شأنه ويكون العامل في هذا الاتجاه متفرعاً على الأعمال الملازمة لدرجات الإنسان وما يقابها من دركاته، كون الارتباط المسبق بالدركات وقياسها إلى الدرجات الطارئة وإن شئت فقل المستحدثة لا يستقيم إلا بتقرير من المكلف نفسه، وهذا يقتضي الامتثال منه طوعاً بعد دراسة وفهم الخصائص التشريعية التي ألزمه الشارع بالسير على هداها، وإن كان لا يملك من العلم بتلك الخصائص إلا القدر اليسير الذي يؤهله للدخول في زمرة المؤمنين والخروج من الجانب الآخر المتمثل بأصحاب المعاصي، هذا إذا علمنا بعدم تطبيقه للمصاديق المتفرعة عن المعارف الحقة التي تصعب على الخلّص من المؤمنين، وتعليلاً لهذا البيان نستطيع القول إن الإنسان التائب يمكن أن يحصل على المعارف الجزئية الملازمة لرجوعه إلى طريق الحق وإن كانت بوجه، ثم بعد ذلك تفتح أمامه السبل الأخرى التي يظن أن أبوابها ستظل موصدة بسبب ما سلف من أعماله، من هنا وقياساً إلى متفرقات القرآن الكريم نرى أن توبة الإنسان المذنب تقع بين توبتين لله تعالى، فإن رجع إلى رشده وندم على فعله وأظهر الطاعة والانقياد لأمر الله سبحانه فبلا أدنى ريب سوف ينظر إليه تعالى بعين اللطف ويلهمه التوبة الصحيحة، ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الثانية من التوبة وهي مرحلة القبول، وقد أشار سبحانه للمرحلة الأولى بقوله: (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) التوبة 118. فيما بين الثانية بقوله: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37. وقد مر عليك تفسير هذه الآية وبيان معنى الكلمات وتوبة آدم في كتابنا هذا فمن أراد المزيد فليراجع.
وبناءً على ما قدمنا يظهر أن التوبة الأولى إذا اتجهت نحو العبد فهي بلا شك تخلق فيه روح الإنابة إلى الله والرجوع إليه، ولا يمكن أن يوفق إلى هذا المسلك إلا بالتزام هذا القيد وكذلك لا يوفق إلى هذا الاتجاه إلا إذا وجد العزم في نفسه، وندم على ما كان منه ثم عقد الميثاق مع الله تعالى بإلزام نفسه على عدم العودة إلى اقتراف الذنوب، وههنا تجرى عليه المسببات الرئيسة المشاركة في إظهار القسم الأول من توبة الله تعالى عليه ثم تأتي المرحلة الثانية المثبتة للقبول، واعلم أن هذا الفعل لا يدخل ضمن التسيير غير المبرر وإنما يراعي فيه التخيير حتى يكمل المكلف توجهه إلى الحق سبحانه ثم بعد ذلك يعمل على تفعيل ذلك التوجه، وبهذا القدر نفهم أن هذا الاتجاه هو أسلم الاتجاهات الداعية إلى خلق الصفات الفطرية وإعادتها إلى دين الله الذي ارتضاه لعباده بعيداً عن الإفراط والتفريط، لا كما نقل عن أمر الكنيسة حيث كانت كما قيل تتجر ببيع أوراق المغفرة وكان الأولياء منهم يغفرون ذنوب العاصين، وهذا من الجهل بل الخداع الذي لا حدود له، وكما ترى فإن أصحاب تلك الديانات لا يزالون إلى اليوم يؤمنون بهذه الأساطير التي رسخت في عقولهم منذ فترات زمنية ليست بالقصيرة، وهذا الفعل يكاد يتقارب مع إيمانهم بظهور المخلص الذي يحمل عنهم إصرهم وذنوبهم ولذلك يحق لهم أن يفعلوا ما يروق لهم كون النهاية مؤمنة لهم والجنة التي وعد المتقون لا تكون إلا ملكاً لهم وهلم جراً.
والمتأمل في مسيرة الإنسان يرى مدى ضعفه وحاجته إلى الله تعالى الذي هو غني عن العالمين، ولأجل هذا الضعف فقد شرع سبحانه التوبة لعباده لكي لا يفقد الإنسان الأمل في الرجوع إلى الله من ناحية، ومن ناحية ثانية يجعل الموازين تتطابق مع ما يحدث في الأرض، بتعبير آخر ماذا لو فقد الإنسان الأمل في الرجوع إلى الله تعالى أي كيف سيكون حال الدنيا وكيف تتخلص البشرية من شر هذا الإنسان الذي علم أن لا قبول لتوبته.
وتأسيساً على ما سبق نرى أن الحق سبحانه قد جعل حدوداً للتوبة خارجة عن إطار العبثية، فمن جهة نلاحظ أن الأبواب مفتوحة أمام عباده على مصارعها، ومن جهة أخرى نرى أن الأبواب لا تفتح للذين وجدوا أنفسهم في منأى عن الإيمان، ويشهد للمعنى الأول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر 53. ويشهد للثاني قوله: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) النساء 137.
فإن قيل: إذا علمنا أن هذا الأمر يجري في الإنسان غير المعصوم فماذا عن الأنبياء الذين تطرق الله تعالى إلى ذكر توبتهم ما يدل على أن الذنب جائز عليهم؟ أقول: مصطلح التوبة لا يستعمل في الرجوع عن الذنب في جميع الحالات، وإنما يراد منه طلب العناية الإلهية وتوفيق الإنسان إليها سواء صدر منه الذنب أم لم يصدر، وسوف نعرض لهذا الموضوع في حديثنا عن طلب إبراهيم وإسماعيل للتوبة في تفسير آية البحث، كون التوبة من قبل المعصوم الذي لا يجوز عليه الذنب لا تنسجم مع المصداق الظاهر للمفهوم الكلي المتعارف لدى الناس، وهنا لا بد من الإشارة إلى دقيقة مهمة وهي إذا كانت التوبة من الله تعالى إلى العبد تحاكي لطفه وعنايته به كما قدمنا فمن باب أولى أن يكون الأنبياء هم أول من يستحق هذا اللطف وبالتالي لا يمكن نسبة الذنب إليهم.
فإن قيل: ربما نسلم بصحة ما قلت ولكن القرآن صرح بنسبة الذنب إلى النبي كما في قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا... ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) الفتح 1- 2. فكيف الجمع؟ أقول: مغفرة الذنب في هذا الموضع لا تدل على صدوره فعلياً من النبي (ص) وإنما يرجع الأمر في ذلك إلى الحوادث التأريخية التي وصم النبي بسببها بأنه عدو الإنسانية والعياذ بالله، حتى ظل هذا الوصم يلاحقه لفترات طويلة، إلى أن جاء اليوم الموعود الذي تم فيه صلح الحديبية، وههنا علم المشركون بصدقه وقوة شخصه إزاء الأزمات والمواقف التي تمر به، حيث كانت أفكارهم تميل إلى الطابع المعاكس لهذا الوجه، ولكن ما إن تم النصر الساحق للنبي وأصحابه حتى اختلفت تلك الأفكار وأصبح ذنب النبي مغفوراً عندهم، دون الذنب الذي يخالف التكليف، وهذا ما يفهم من الإشارة إلى غفران الذنب المتأخر كذلك، فتأمل هذا المعنى.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) البقرة 128. الآية تشير إلى دعاء إبراهيم وإسماعيل بأن يجعلهما الله تعالى مخلصين في العمل والاعتقاد وهذا المعنى لا يحصل إلا بتوفيق الله تعالى، أما سؤالهما الإسلام للذرية فهو لأجل إبقاء هذه المنزلة ثابتة فيهم، ولفظ الذرية يطلق على نسل الإنسان والجن على حد سواء، وقد أشار تعالى إلى المصداق الثاني بقوله: (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء) الكهف 50. أما مصطلح الأمة فيطلق على الجماعة التي ترتبط بقصد واحد سواء أكانت من فئة العقلاء أم لم تكن، ويشهد للفئة الثانية قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) الأنعام 38. وقد يطلق هذا اللفظ على الواحد إذا كان بمنزلة الأمة، كما في قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) النحل 120.
قوله تعالى: (وأرنا مناسكنا) من آية البحث. النسك العبادة والمنسك الموضع الخاص بها، وقد بين سبحانه هذا المعنى بقوله: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) الحج 67. إلا أن الاستعمال الشائع للمناسك أصبح علماً على أفعال الحج، كما في قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم) البقرة 200. وتتفرع عن هذا المفهوم مجموعة من المصاديق، كما في الهدي المذكور بقوله سبحانه: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) البقرة 196. وكذا قوله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) الأنعام 162.
قوله تعالى: (وتب علينا) من آية البحث. يظهر فيه معنى الدعاء والطلب دون الإشارة إلى صدور الذنب كما بينا من خلال البحث، وههنا معنى آخر لا يقل أهمية عن المعنى السابق وهو طلب التوبة لذريتهما ومن يلحق بهما، ثم ختم تعالى المقام بقوله: (إنك أنت التواب الرحيم) والتواب صيغة مبالغة تفيد الكم والنوع أي يغفر جميع الذنوب كماً وأكبرها نوعاً، والرحيم على وزن فعيل وفيه كذلك نوع مبالغة تدل على دوام الرحمة، وقد بينا الفرق بين الرحمن والرحيم في تفسير سورة الفاتحة ومن أراد معرفة الفرق فليراجع.
من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
التعليقات