مازح الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو وفد نقابة الصحافة اللبنانيّة بقوله مُرحّباً :" أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان " ، الرئيس الراحل الذي كان قد إمتهن الصحافة وخَبِر كواليسها أراد بمقولته هذه أن يَغمز من قناة صِلات كثير من كبار الصحافيين بدول وأجهزة خارجيّة وقيامهم بأدوار مركّبة ومُوجّهة في بلادهم وخارجها .
يثير مثل هذا التعبير سؤالاً جدلياً مُزمناً حول نوع ودرجة التأثر والتأثير وتلك الخيوط المتشابكة بين هذه المؤسسات النخبويّة الأساسيّة إن على مستوى العالم أو داخل كل مجتمع ودولة .
العلاقة بين ثالوث السياسة والأجهزة الأمنية والصحافة _على تداخلاتها وخباياها وإلتباساتها_ مُشرّعة على كافة الإحتمالات ، تستوعب كل السيناريوهات والتصورات ، فهي متداخلة حتى النخاع ، ذلك أنّ لكل صناعة من هذه الصناعات طبيعة تكوينيّة ووظيفة غائيّة تستوجب صلة وإرتباطاً ما ( تكاملي أو إحتوائي ) يرقى لأن يكون في عدّة حالات شبه عضوي مع الطرف الآخر، فلا سياسة فاعلة بلا صحافة ولا صحافة بلا سياسة ولا أمن بلا سياسة ولا سياسة بلا أمن .
عالمياً ، راسخون في الصحافة إشتهروا بقربهم من القادة السياسيين وتأثيرهم في صناعة القرار ، منهم الصحافي الفرنسي فرنسوا مورياك الذي كان صديقاً لصيقاً بالجنرال شارل ديغولالرئيس الفرنسي ، وكذلك الصحافي الأميركي والتر ليبمان الذي عاش ردحاً من حياته في أروقة البيت الأبيض مُقدّماً الرأي والمشورة فهو من صاغ مصطلح " الحرب الباردة " ، وعُرف بإنتقاده لمفهوم الديمقراطيّة وقد إستعرض أفكاره بالتفصيل في كتابه الشهير " الرأي العام " .
يفاخر كبار الصحافيين في الشرق والغرب بعلاقاتهم بالقادة والزعماء وصنّاع القرار ، منهم مَن يُوصف بأنه إنْ صَادَقَ فملوك ورؤساء وإن فاَرَقَ فملوك ورؤساء ، أحدهم يُحدّث زميلاً له قائلاً : " عندما لا تعد تعثر على مقابلات لي مع رؤساء فاعلم أني قدْ مُـت " .
ولا شك أن متانة علاقة الصحافي بالسياسي صانع القرار في كثير من الحالات دليل تميّز ونجاح ، وهنا يقتضي التفريق بوضوح بين علاقة متكافئة يسعى فيها السياسي لتقريب الصحافي إلى دائرته المُغلقة نظراً لحِرَفيّته وحيثيّته وتأثيره ودوره كصلة وصل بين الأطراف، وبين نموذج شائع وزائف يمارسه الكثيرون في الصحافة ممّن تفرّغوا لأداء مهمّة " البوق " الذي يَنطق ويُردّد حرفياً تعليمات السلطات السياسية والأمنيّة .
في المعادلة الثلاثيّة ، لا شك أن الصحافة هي الطرف الأضعف حيث أنها لا تمتلك ذلك النوع من السلطة أو مصادر القوّة التي يحتكرها حصراً صانع القرار السياسي والأمني ، لكن هذا لا يمنعها من أن تتحوّل وفي حالات إستثنائية إلى السلطة الأكثر تأثيراً وأن تكون سبباً مباشراً في حدوث تحولات سياسيّة كبرى .
تَتعسّف كثير من الدول حول العالم بتطبيق سياسة زج الصحافيين في السجون أو تُقيّد حريّة حركتهم وتفرض قيود قانونية على نشر المعلومات ، فيما تنتهج دول أخرى سياسة ناعمة فتعمل على إستقطاب وتأهيل صحافيين في كنفها وإحتواء البعض الأخر وأحياناً التضييق الغير مباشر على أولئك الخارجين عن الصندوق ، دول أخرى تترك العلاقة حرّةً طليقةً لتحكمها المصالح والحاجات المتبادلة والتفاعلات الطبيعيّة في هذه الصناعات الثلاث.
على جبهة الصحافة الغربيّة لا سيّما الأميركيّة والبريطانية والفرنسيّة تُخاض معركة إثبات ذات يوميّة إضافة إلى وُرش تحديث وتجديد وتطوير مفتوحة ، وقد إنتصرت هذه الصحافة لا سيّما الأميركيّة في معارك " تاريخيّة " ضد السلطة السياسيّة ، أشهرهاعلى الإطلاق في العقود الماضية كانت حين أثارت صحيفة واشنطنبوست ما عُرف فيما بعد بفضيحة " ووتر غيت " والتي أطاحت بريتشارد نيكسون الرئيس الأميركي الأسبق ، وقد تمّ ذلك بواسطةالصحافيَّين الأميركيَّين "كارل برنستين" و"بوب وود ورد " ، تشير هذه الحادثة إلى مدى ما يمكن للصحافة أن تبلغه من تأثير على كافة المستويات ، وكيف أن لها _ بحكم وظيفتها كصلة وصل مجرّدة بين المصدر والمتلقي أو كناقل محايد للمعلومات _ دوراً رئيسيّاً وفعّألاً في إطلاع الرأي العام على ما يجري من حوله أو ما يخص شؤون حياته وحاضره ومستقبله .
اليوم تتواصل هذه الإثاره في العلاقة بين الصحافة والسياسة مع وصول دونالد ترمب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركيّة ، ومعروف عن الرئيس معاركه اليوميّة المفتوحة مع الصحافة التي إستعاض عنها بالتغريد المباشر عبر " تويتر " وهو يكاد يواجَه كل يوم بفضيحة جديدة ، وسبق له أن وصف الصحافيين بأنّهم " بين أكثرالكائنات الإنسانية خداعاً على وجه الأرض " .
تغيّرات جذريّة هائلة حلّت بصميم مهنة الصحافة والإعلام بفعل ثورة الإتصالات وتقنية المعلومات وهيمنة الإعلام الجديد ، فبرز مدوّنُون وناشطون ونجوم على شبكات التواصل الإجتماعي فاقوا بتأثيرهم وحرفيتهم _ أحيانا _ الكثير من وجوه الصحافة التقليديّة بل ودهاقنتها ، والسلطة السياسيّة خصوصاً في مجتمعاتنا العربيّة ومن خلال أذرعها وأجهزتها تسعى بكافة السّبل لمراقبة ما ينشر على الإنترنت ، وفلترة مضمونه خاصّة وأن هناك مخاطر وجوديّة صارت تهدد الكيانات الوطنيّة جرّاء تغلغل التطرّف و الإرهاب الذي يعتبر الإنترنت أحد منصاته التعبويّة والتحريضيّة والقتاليّة ، لكن أيضاً هناك قلق مبالغ فيه من قبل الحكومات يدفعها للسعي للسيطرة وتوجيه الرأي العام سواءاً عبر الإعلام الجديد أو القديم .
كثيرة هي التحديات التي تواجه الصحافة وتؤثر على الممارسةالمهنية ، وبعضها لايمكن معالجته إلاّ نسبيّاً وعلى مراحل ، لأنهاتتوقف بدرجة كبيرة على إرادة مالكي وناشري الصحف والمنصّات والوسائل الإعلامية المختلفة ، وكذلك على الإرادة السياسية اللازمةلإتخاذ قرارات وإجراءات عملية وملموسة للتخفيف من الأعباء التيتواجه المؤسسات الصحفية ومستقبل الصحافة ككل ، فلا بدّ من حوار دائم وتقارب وتكامل على عناوين أساسية بين الجميع تكون على السياسات الإستراتيجية المتعلقة بالأمن القومي وبرامج التنمية وسلامة المجتمع .
إستطراداً ، ودون الخروج عن النص ، ومع كل التبدّلات التي تطال صنعة الصحافة ـ فإن أحد أهم المؤشرات الواعدة هي تصاعد دور وحضور المرأة في هذا القطاع ، الأمر الذي يَشي بمستقبل أكثر إشراقاً وقصص أكثر مهنيّة وتنوعاً وتأثيراً ـ فالمرأة صحافيّةٌ بالتكوين والفطرة ، تكتنز من ملكات الصحافة ما يفتقده أغلب الرجال ، ويعرف العاملون في الإعلام جيداً أهميّة طلّة المرأة في توازن المشهد وفي كسر جمود وحدّة المحتوى .
المرأة ومنذ بدء التكوين كانت الأم المؤسِّسَة لفكرة الإتصال والصحافة أليست هي من نقل خبر تلك
"التفاحة" من الشيطان إلى الإنسان ثمّ كان ما كان.
التعليقات