أحد الصحفيين المعروفين في عالم الصحافة وفي أقنية التلفزة العربية يعلق يومياً على الوضع في سوريا ويستخدم الخطاب الناري ضد عصابة الأسد وفي تأييد إنتفاضة الشعب السوري . في الحقيقة أن خطاب هذا الصحفي يتلاقى مع الأخلاق الإنسانية القويمة دونما حاجة لعلم السياسة إذ أن الخسائر الهائلة التي لحقت بسوريا والشعب السوري فيما يفترض أنه ربيع سوريا أسقطت كل الحدود السياسية وبات الأمر موقفاً أخلاقياً حيث من لا يتعاطف مع الشعب السوري بعد كل هذه الدماء التي سفكتها ذئاب شبيهة بالإنسان يفتقد كل خلق إنساني قويم . أتعقب تعليقات هذا الصحفي حيثما وجدت طالما أنها تشحنني من جديد بالمزيد من التعاطف مع الشعب السوري الذي خبرته كأذكى شعب بين الشعوب العربية لكن عصابة الأسد استطاعت منذ العام 1970 أن تلقي به في مهاوي التهلكة والتخلف والفقر . غير أن خطابات هذا الصحفي النارية الذي يرى في نفسه معلقاً سياسياً لا يشق له غبار تفتقر إلى المعلومات والقراءة التاريخية الصحيحة . ميلي الشديد إلى تعليقاته دفعني إلى مهاتفته مرتين كي أشرح له ما فاته من وقائع تاريخية تصب في طاحونه المهنية غير أن الرجل وكما بدا لي اعتبر تدخلي اعتداء على ما حقق من نجاح في مهنته كمعلق سياسي. 

من القليل الذي أعلمه في تخصص الصحافة والإعلام هو أن الدرس الأول فيهما يشترط أن يقوم الصحفي بتصوير الحدث فوتوغرافياً ونقل الصورة بكامل خطوطها إلى القراء كما هي دون أن يضيف أليها شيئاً من آرائه أو تحليلاته الشخصية للحدث . الأمر ليس كذلك في العالم العربي المتخلف في الإعلام أكثر منه في الأنشطة الأخرى بسبب مصادرة الحريات حيث كل المعلقين السياسيين هم صحفيون في الأساس لكنهم اجتهدوا ليبرزوا محللين سياسيين لهم ثقل ملحوظ في الصراع السياسي مما يعود عليهم بمغانم لا تتواجد في أعمال الصحافة أو الإعلام . أمثال هؤلاء الصحفيين الذين انقلبوا إلى معلقين سياسيين لن يورثوا قراءهم والمستمعين إليهم بالطبع غير التخلف السياسي وهوما يكلف الأمة أكلافاً باهضة الأثمان . من أول أسباب تخلف الأمة هو أن يكون معلميها رجال الدين وأن يعلمها السياسة صحفيون . السياسة هي بالجوهر الشرح الوافي لعلم الإقتصاد، لعلاقات الإنتاج المحلية والدولية والمصالح المتضاربة فيها، ومهنة الصحافة هي أبعد ما يكون عن علم الإقتصاد.

كنت أود أن أكشف لهذا الصحفي وقد نجح عربياً في امتهان التعليق السياسي مسألتين في غاية الأهمية، وكل تعليقاته تقريبا تروح لغير مكان نظراً لجهله حقائق الأمور . المسألة الأولى هي وصول حافظ الأسد إلى سدة السلطة في سوريا وهو موضوعه الرئيسي والمسألة الثانية علاقة روسيا بالوضع في سوريا وهي كذلك موضوعة رئيسة في تعليقاته . أما وأن الرجل لم يستجب ورد علي باستكبار فارغ فعلي أن أشرحهما في التالي.

كنت كشيوعي ماركسي ضد انقلاب حافظ الأسد على مجموعة يسارية من قادة حزب البعث خاصة وأننني كنت قد سمعته كوزير للدفاع يخطب بالوحدات العسكرية في الجولان ضد الشيوعيين قبل حرب ال 67 ويؤكد أن الجيش العربي السوري لن يرفع علماً آخر غير علم البعث !! وقام إذاك بطرد كل العسكريين المشتبه بهم كشيوعيين من الجيش وهو ما سهّل تسليمه الجولان دون حرب لإسرائيل برأي أحد رفاقه. 

والأسد نفسه هو الذي رفض أن يغطي الدبابات السورية في شمال الأردن بالطائرات رغم وقوعها تحت قصف الطائرات الأردنية وتهديدها من قبل الطائرات الإسرائيلية، وكان ذلك بمثابة جرم الخيانة العظمى، وقد تبين إذاك أن الأسد اقترف جرم الخيانة الوطنية بطلب من القيادة السوفياتية التي شددت على الحكومة السورية بضرورة الإنسحاب من الأردن فوراً غير أن القيادة السورية لم تستجب للطلب، فكان أن حدث ما لم يحدث في تاريخ الحروب وهو أن طواقم الجنود في الدبابات تركوا دباباتهم في سهول الأردن وعادوا راجلين إلى سوريا . كان ذلك في نهاية سبتمبر 1970 ؛ وفي 16 نوفمبر قام الأسد بانقلاب عسكري ووضع رفاقه في القيادة في السجن دون ذنب اقترفوه، بل ظلوا في السجن 25 عاما دون أن يسألهم أحد عن ذنب اقترفوه . ما كان غريباً أيضاً في انقلاب الأسد هو أن سوريا ظلت بعد الإنقلاب لأسبوعين بلا حكومة وهو ما يعني أن الدستور أكله "الحمار" كما رأى أحد الكتاب الأذكياء السوريين ؛ وأخيراً تشكلت الوزارة في نهاية نوفمبر وتبين أن سبب التأخير كان رفض الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش الإنقلاب والاشتراك في الوزارة . تشكلت الوزارة وفيها وزيران شيوعيان وليس لذلك من تفسير سوى أن موسكو اتصلت بخالد بكداش وطلبت منه الإشتراك في الوزارة ولعلها أفضت إليه بحقيقة أن الأسد هو رجلهم، مع أن الإنقلاب كان "تصحيحياً" أي رفض المسار الاشتراكي الأمر الذي أكده نائب الأسد ومنظره السياسي عبد الحليم خدام، المسار الاشتراكي الذي تبناه حزب البعث في مؤتمره الأخير . الأسد يقوم بانقلاب ليرفض الاشتراكية والاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي السوري يقبل به والحزب الشيوعي الأردني يدافع عنه بحماس يدعو إلى الشبهة . لا غرو في ذلك فالهواري بومدين قام بانقلاب على بن بلة في العام 1965 بعد أن أعلن بن بله أنه سيأخذ بالاشتراكية العلمية كنظام في الجزائر وبالرغم من ذلك فقد كان لبومدين حظوة خاصة في الكرملين.

في حرب 1973 وصلت القوات الإسرائيلية بلدة سعسع قرب دمشق فكان أن تجهز الإتحاد السوفياتي لإشعال حرب عالمية كما أدت أكثر من جهة حفاظاً على نظام الأسد في دمشق علما بأن السوفييت أنفسهم ظلوا يتفرجون على ناصر ينهزم في ال67 دون أن يحركوا ساكنا، بل إن الطائرات الإسرائيلية مرت من فوق الأسطول السوفياتي شرق المتوسط لتضرب مصر من الغرب دون أن يحذر السوفيات مصر وهم الذين تكفلوا مصر قبل يوم فقط ألا تقوم بالضربة الأولى فكان أن سمحوا لإسرائيل أن تقوم بالضربة الأولى وهو أمر يدعو بقوة إلى الاشتباه بموقف العصابة الحاكمة في موسكو وأدانته بقوة من قبل الشعوب العربية وسائر قوى التقدم والسلام في العالم ؛ وكان ناصر قد وبّخ بريجينيف وجهاً لوجه في شباط 1970 حين قال له ناصر أن الحرب كانت في الأساس عليكم ونحن حاربنا بدلاً عنكم ومع ذلك وقفتم تتفرجون علينا ننهزم.

فيما بعد خسارة سوريا لأكثر من 80 طائرة في معركة الطيران في البقاع اللبناني في حزيران 1982 ذهب محسن دلول نائب رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي اللبناني لمواساة حافظ الأسد على تلك الخسائر الفادحة وفوجئ دلول بأن الأسد كان في مزاج طبيعي ولما استفسر دلول عن الأمر قال له حافظ الأسد حرفياً .. "أنا لي صديق صدوق في موسكو أكد لي بأنه سيرسل إلينا طائرات بعدد الذي فقدناه وبطياريها إذا احتجنا ذلك ووعد بأنه سيعلم الأمريكان درساً لن ينسوه في لبنان" وعندما سأل ذلول عن اسم ذلك الصديق الصدوق أجابه الأسد بأنه يوري أندروبوف، وأندروبوف كان رئيساً للمخابرات السوفياتية (KGB) حين كان حافظ الأسد يتدرب على الطيران الليلي في الاتحاد السوفياتي . من كل هذه الدلائل لا مندوحة من القول أن حافظ الأسد إن لم يكن عميلاً للمخابرات السوفياتية فهو كان متعاونا معها والفرق بين الحالتين عديم الأثر. 

منذ انطلاق الإنتفاضة في سوريا في آذار 2011 كنت أؤكد لجلسائي أن روسيا لن تسمح بحال من الأحوال بتغيير النظام في سوريا ولو اقتضى ذلك التدخل العسكري . في الجزائر قضي على انتفاضة الشعب الجزائري بعد تقتيل أكثر من 300 الف مواطن ولم يلزم تدخل عسكري روسي . أما في سوريا فقد اضطرت روسيا إلى التدخل العسكري بعد أن زاد الشهداء على 300 الف وبدا أن الانتفاضة لن تخمد بدون تدخل روسيا . ليس لروسيا أية مصالح في سوريا كماأكد ذلك بوتين نفسه لكن المعلقين السياسيين العرب لم يصدقوه ويعللون تدخل روسيا العسكري المجافي لكل خلق إنساني قويم بمصالح روسية في سوريا رغم أن بريجينيف في عرب اكتوبر 73 غلمر بحرب عالمية ثالثة دن أن يكون هناك أية مصالح للإتحاد السوفياتي في سوريا . المخابراتالسوفياتية جاءت ببومدين في الجزائر وبحافظ الأسد في سوريا لضرب الحركة الوطنية المتصاعدة في العالم العربي وهو ما كان قد عبر عنه خروشتشوف في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي في العام 1961 مؤكدا على وضع خط فاصل بين الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني التي قد يتقدمها مغامرون (!!) المخابرات الروسية مصممة على ألا تنهزم في سوريا وستبقي على عصابة الأسد في السلطة، ولذلك فإن اتصالات قادة الإنتفاضة بروسيا إنما هو خيانة لدماء مئات آلاف الشهداء.

المسألة الثانية التي يجهلها العامة ومنهم هذا الصحفي والمعلق السياسي، وتسكت عليها الدوائر العسكرية في الغرب وهي أن الولايات المتحدة مدعومة بحلف الأطلسي لم تستطع مواجهة الاتحاد السوفياتي حتى في عام تفككه 1991 عندما اتصل غورباتشوف بجورج بوش وأكد له إن لم يوقف الحرب على العراق بعد نصف ساعة سيوجه إليه إنذاراً نهائياً، فكان أن توقف إطلاق النار قبل انقضاء نصف ساعة . ليخبرني هذا المعلق السياسي الذي كتب أن الكف الروسية لا تستطيع مواجهة المخرز الأميركي، ليخبرني لماذا توقف القتال بعد أن اجتازت القوات البريطانية والأميركية الحدود الحنوبية للعراق وحطمت الحرس الجمهوري ورفض مجلس الأمن بالإجماع وقف إطلاق النار قبل أقل من ساعة . لماذا أمر الرئيس بوش بوقف إطلاق النار !؟ ونعود أيضا إلى إنذار شبيلوف في مجلس الأمن في 23 تمور 1958 وقد أنذر الولايات المتحدة وبريطانيا بسحب قواتهما من لبنان والأردن خلال ثلاثة أيام وإلا فالإتحاد السوفياتي سيضطر لحماية حدوده الجنوبية . وكان أن فسرت الصحافة العالمية التهديد السوفياتي باحتلال ايران وتركيا . إذاك لجأت الدولتان العظميان إلى عبد الناصر يتوسط لدى أصدقائه السوفييت بتمديد فترة الإنذار إلى ثلاثة شهور بدل ثلاثة أيام وهو ما كان . ونعود أيضاً إلى إنذار بولغانين الرهيب لدول العدوان الثلاثي على مصر مطالبا بوقف العدوان قبل منتصف ليل 5/6 نوفمبر 1956 وإلا فستقصف عواصمهم بالصواريخ البالستسة فكان أن وقف العدوان بعد أن رفضت أميركا مواجهة الإنذار السوفياتي.

كان أهم تقرير تكتبه المخابرات الأميركية لدى إنشائها في العام 1949 هو أن الولايات المتحدة لا تستطيع مواجهة الإتحاد السوفياتي حربياً في الشرق الأوسط وهو المبدأ الذي تحرص الولايات المتحدة على مراعاته حتى اليوم ولعل موقف الولايات المتحدة من الحرب في سوريا خير دليل على ذلك.

الصحفيون الذين برزوا كمعلقين سياسيين في العالم العربي يسيئون التحليل عندما يدعون أن الكف الروسية لا تستطيع مواجهة المخرز الأميركي وتعليلهم أن القدرات الاقتصادية الأميركية هي أضعاف القدرات الروسية وينسى هؤلاء القوم المتطفلين على السياسة أن الحرب العالمية الثالثة لن تستمر أكثر من بضع ساعات حتى يتبين المهزوم من المنتصر ولن تلعب القدرات الاقتصادية أي دور في تلك الحرب بل إن العامل الحاسم في حينذاك سيكون التكنولوجيا الحربية وتكنولوجيا الفضاء وروسيا متقدمة على أميركا في هذا السياق لأكثر من عشر سنوات رغم أن المعطيات الموثوقة ستؤدي إلى هزيمة الطرفين.