للشارع الكوردي قراءاته وتحليلاته، فهي إما عاطفية مبنية على التقديس أو الحب المُفرط الذي تكنّه لقائد ما، مما قد يملؤه حقداً وكرهاً لكل مَن يعارضه في أهوائه وهواجسه، أو واقعية تستند على الحقائق الموضوعية والمعلومات المنطقية، فهناك مَن يقرأ سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي على أنها نموذج إجرامي يعادل لا بل ويفوق إجرام حزب البعث العربي، مطلقين عليه تسمية «حزب البعث الكوردي»، من تخوين كلّ مَن يعارضه، واللعب على الوتر القومي الحسّاس، واختلاق المعارك الجانبية، وتشكيل سلطة نظيرة للنظام أمنياً، وملاحقة وخطف واعتقال واغتيال الناشطين السياسيين والمناضلين الكورد، وإبعادهم عن الثورة أو تسليمهم إلى أفرع المخابرات السورية، وغيرها من الممارسات التي كانت وما زالت سمة أساسية من سمات دكتاتورية الحزب، وهناك مَن يقرأ سياساته على أنه حزب مُستقل، يمارس العمل السياسي بحالته الطبيعية دون تبعية وارتباطات إقليمية، وأنه يعمل على تطوير مشروعه المُعلن في وقت سابق «الإدارة الذاتية الديمقراطية» والنهوض به إلى مستوى آخر واستبداله بمشروع الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا «لماذا لا يكون فيدرالية غربي كوردستان؟ ثم أين الهوية الكوردية في هذا المشروع؟»، في ظل استمرار النزاع الدائر، وعدم وجود أي قانون قضائي أو دستور حقيقي لمحاسبة المُخطئين ووقف الاعتداءات والانتهاكات بحق المدنيين، فيما هناك مَن قارنه بتنظيم داعش من حيث النشأة والهدف والأسلوب الترعيبي، لكن؛ جلّ ما يتم تداوله بشكل عام أنه «حزب قمعي، شمولي، يُقصي كلّ مَن يعارضه في قرار أو يحاربه في اختلاف فكري وسياسي، وليس له أيّ أهداف ومشاريع كوردية»، خاصة وأنه يملك ماكينة إعلامية يغيّب الحقائق ويتلاعب بها وراء صورة المظلومية التاريخية والعلمانية، وتسخير كلّ الإمكانيات لتحسين صورته وصورة مقاتليه، وتشويه تاريخ شريكه الكوردي في الهَمّ والغَمّ.
تطلق جهات عسكرية وأمنية تابعة للإدارة الذاتية المُدارة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي، بين الحين والآخر، سراح عناصر تنظيم داعش، المشاركين بفعالية مهووسة في عمليات تفجير أنفسهم بأحزمة ناسفة أو داخل سيارات مصفّحة مفخّخة في المناطق الكوردية، ليخلّفوا دماراً وفوضى في البُنى التحتية واستشهاد المدنيين والعسكريين بأعداد كبيرة، أما الكوردي الذي يشاركه في حلّ القضية سياسياً ومساعدة الشعب اجتماعياً ومعيشياً، فيبقى في سجونه ومعتقلاته، دون أي رادع قومي أو إنساني. دائماً ما يراودني تساؤلات معقّدة ومحيّرة حول هذه السياسة غير المألوفة التي ينتهجها الاتحاد الديمقراطي، كنت أسأل الذين أحاورهم حول هذا الأمر، ليس من باب التحزّب أو التهجّم أو التخوين: «لماذا PYD تطلق سراح عناصر داعش المعتقلين لديها كأسرى حرب، والذين حاربوا الكورد وفجّروا مدنهم وفخّخوا أراضيهم وبيوتهم، وسَبوا نسائهم، في حين تعتقل يومياً كوردها سواء المذنبين أو البريئين، من النشطاء والقادة السياسيين والمناضلين، أفراداً أو مجموعات؟».
إن حزب الاتحاد الديمقراطي «الفرع السوري لحزب العمال الكوردستاني والمُدرج على لائحة وزارة الخارجية الأمريكية للإرهاب منذ عام 1997» هو الفصيل البارز والمؤقت ربّما في الصراع السوري، وعلاقته مع أهداف الولايات المتحدة، التي حرصت على تحديد تدخّلها في سوريا من خلال تنفيذ هجمات جويّة منخفضة المخاطر والخسائر، ومنح حلفاء محلّيين «فيدرالية وظيفية» لمحاربة تنظيم داعش، فضلاً عن الإطاحة بالنظام السوري، وهي لن تتعب نفسها وشعبها في مستنقع الشرق الأوسط المليء بالخلايا والتنظيمات الإرهابية والمتطرّفة، ونشر قوّات بريّة لهزيمة هذين الخصمين، ولكن، عبر تنازلها عن مثل هذه الأدوار المهمّة والاستراتيجية لجماعات محليّة أصغر حجماً تضمّ السكان الأصليين، سمحت أمريكا لدول أخرى تحمل أهدافاً مختلفة، على غرار إيران وروسيا، بالسيطرة على الساحة، من خلال الطيران الروسي الذي اعتاد يومياً على قصف مناطق تواجد المعارضة السورية، وتدخل حزب الله وحرس الثوري الشيعيين في المعادلة، وازدياد رقعة تواجد الشيعة.
والتمدّد الواسع في داخل المناطق الكوردية وخارجها التي حقّقها قواته العسكرية، يهدّد بجرّ تركيا إلى الأزمة السورية الحامية، مانحاً تنظيم داعش متنفّساً تحتاجه الجماعة بشدة في أعقاب سلسلة الخسائر التي مُنيت بها مؤخراً في كوباني ومنبج والرقة وحتى في العراق، «لولادة التحالف الدولي»، ولكي يتجنّب «PYD» التدخل التركي غير المرحّب به في الحرب السورية، خاصة أنها تمهّد الطريق لقصف عفرين الذي بات على الأبواب – بحسب الإعلام التركي – فإنه من الممكن أن يكون إطلاق سراح عناصر داعش من السجون الكوردية يخدم ذاك المنحى، إذ الدعم التركي اللوجستي والإعلامي لداعش تحوّل من الحالة السرّية إلى الحالية العلنية، ولكن بطرق وأشكال صبغتها بألوان الشرعية، كحلق اللحى واستبدال شكل الملابس وتغيير الشعارات!!
أضف إلى تلك الإجابات أن إطلاق سراح أسرى داعش من سجون إدارة «PYD» الذاتية، له العديد من الارتباطات بنفس الخندق والالتقاء بمصالح مشتركة من قبل النظامين الإيراني والسوري، وفي نفس الوقت هناك العديد من السجناء السياسيين الكورد في هذه المعتقلات، ولا يتم إطلاق سراح أيّ منهم، لأسباب باتت بديهية، لأن تغيير بنية وأهداف مشروع منظومة حزب العمال الكوردستاني جاءت لإفشال كل المشاريع الكوردية الراهنة والمستقبلية، ومنها مشروع الاستفتاء، لهذا فهو يستمرّ في سجن الكورد في سجونه ومعتقلاته السرّية، لمدة طويلة، لإرضاء النظامين الذين ينخران في الجسد الكوردي كالسرطان، وإفشال الحالة الكوردستانية في أربعة أجزاء، والدولة العميقة التي تدير هذه المنظومة الأمنية تجعلها دوماً في وجه أيّ تطوّر وتقدّم كوردي، وتعمل على إلهاء المجتمع الكوردستاني بمشاريع وأفكار عكس تيار الواقع السياسي والظروف الموضوعية، لتؤخّر تحرّر الكورد.
وهناك إجابة منطقية أخرى لهذا السؤال المهم، والتي قدّمها صديقي الكاتب السياسي «عماد يوسف»، برؤية عميقة وصورة قريبة من الواقع، عندما ناقشته حيال هذا الأمر، حيث يرى أن الأمور والتحالفات السياسية ليست بيد «PYD» بقدر ما هي بيد الفصائل العسكرية المتحالفة معها، ومن ورائها نظام الأسد، وأن ما يجري من إطلاق سراح معتقلي داعش بين الفينة والأخرى ناتج عن اتفاقات مع العشائر العربية التي كانت منضوية لتنظيم داعش سابقاً، من أجل كسبها ودمج أبنائها في قوات سوريا الديمقراطية، وقد تكرّرت هذه الحالات وتحوّل البعض من هؤلاء المُفرَج منهم من قادة في صفوف داعش سابقاً إلى قادة في صفوف قوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي فإن عمليات الإفراج كلّها تندرج تحت فكرة «البقاء في حكم المنطقة وقيادتها المستقبلية»، مستغرباً «لم يحدث في التاريخ أن تتسامح سلطة ما مع المقاتلين ضدّها والساعين للقضاء عليها، في الوقت الذي تعتقل الكوادر المدنية من أبناء جلدتها من السياسيين والإعلاميين والمنتمين للتنظيمات الراغبة في شراكتها والعاملة من أجل قضيتها، خاصة وأن الجميع هنا تنظيمات كوردية عانت كل صنوف الاضطهاد سوية خلال عقود من الزمن!!».
لينهي القيادي الكوردي كلامه لي بقوله: «بلا أدنى شكّ، فإن ما يجري بحق الكورد من قوانين واعتقالات وممارسات تعسفية هو تهجير منظّم لهم وانتقام من انضمامهم لصف ثورة الحرية والكرامة، ويهدف في المحصّلة إلى عرقلة تحقيق الكورد لأي مطلب سياسي أو ترسيخ وتثبيت وجودهم التاريخي في سوريا».
وأخيراً كتحليل لخفايا سؤال المقال الذي وضعته، والذي بالإجابة عليه، يتضّح للناس – المشغولة بقوت عيشها ومعاناتها – كثير من الدلالات المستترة والممارسات والنتائج التي يحققها أو يجنيها الحزب من عملية الإفراج عن عناصر داعش، المليئين بالعنجهية والهمجية، ذلك أن المشكلة بالدرجة الأولى هي مخابراتية بحتة، فالذئب يحبّ القتل والدم، ومَن يحبّ ذلك لا يهمّه لا الكوردي ولا العربي ولا حتى الداعشي أيضاً، لكن الواضح هو أن الذي يتم إطلاق سراحه، يكون النسبة الأكبر منهم من مخابرات النظام السوري والإيراني والتركي، ولأن الجهاز العسكري الخاصّ في الاتحاد الديمقراطي ودائرة صنع القرار مخترق من قبل أفرع المخابرات، فيما قرار اعتقال كبار السياسيين الكورد والفاعلين بصورة كبيرة في الشارع والمنابر الإعلامية والمحافل الدولية يعود لهذه الأنظمة وليس للاتحاد الديمقراطي، فالاتحاد لا يخشى من العرب أو القوميات الأخرى، ويحاول قدر الإمكان التقرّب منها وإثبات صحة فلسفة «عبد الله أوجلان» والأمة الديمقراطية وتعايش القوميات والطوائف والأديان ضمن منظومة موحّدة، إنما يخشى من أيّ قوة أو حركة كوردية تحاول أن تتقدّم أو تنفي مشروعه، فهو يحاول دائماً كبح جماحها وإرهابها، وإظهار أنه الوحيد الذي يمثل الكورد، ضمن هذه المنظومة الفلسفية الاجتماعية التي رسمها أوجلان، أو بمعنى آخر لا يرى الحزب القوميات الأخرى وتنظيماتها خطراً عليه، ويرى الحركات الكوردية هي الخطر الأول والأخير عليه، لأن اعتمادها على الساحة الكوردية، وتستمدّ منها طاقتها وامتداد قوّتها.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: «أيقوم معارضو حزب الاتحاد الديمقراطي بخطف بعض الشخصيات السياسية والعسكرية النشطة والفاعلة في إدارته الذاتية، من حيث قدرتها على صناعة القرار والأمر بتنفيذه، ثم المراهنة والتفاوض على حياتهم مقابل إطلاق سراح كل المعتقلين الكورد وتبييض السجون؟».
لكن جميع الشرفاء والعقلاء الكورد يدركون جيداً أن الإقدام على مثل هذه الأمور الخطيرة، لها عواقب وخيمة وتأثيرات كارثية على قضية الشعب الكوردي في غربي كوردستان، من حيث عودة القمع والإجرام والاستبداد، وضياع القضية والشعب جراء الفوضى والتشتت، في اتفاقية جديدة، كاتفاقية سيفر أو لوزان أو سايكس بيكو.
وفي الختام، وجلّ ما أودّ قوله لأنصار حزب الاتحاد الديمقراطي وكلّ مَن يشدّ على يديه، أن هناك حقد دفين وتعال متجبّر – يظهره ويخفيه في آن واحد – الأغلبية العربية تجاه الكورد، من جهلهم بتاريخ وحضارة الكورد تماماً أو جزئياً، والتواطؤ مع السلطات العربية العرقية، ولأسباب نفسية وأخلاقية غير مفهومة، وفشلهم المخزي في تعريب روح الثورات التحرّرية الكوردستانية، فهم ادخروا أموالاً طائلة في سبيل إذلال الكورد خلال المئة سنة الأخيرة.
إدريس سالم
كاتب وصحفي كوردي
التعليقات