من أسوأ الآفات التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا هي آفة إلغاء الآخر أو إقصاؤه، والعقلية الإقصائية هي آفةالمجتمع التعددي وخطرها عليه أشد فتكا من الخطر الخارجي. الثقافة الاقصائية نوعا من التفكير الشخصي الذي يتم من خلاله تشويه صورة الآخر بقصد إقصائه او تهميشه. صاحب العقلية الاقصائية يحاول التقليل من شأن الأشخاص الذين لا تتطابق وجهات نظرهم مع وجهات نظره، والذين لديهم أراء ومواقف تختلف مع أراءه ومواقفه.
ثقافة الاقصاء والتهميش مناقضة لطبيعة الحياة التعددية وتصطدممع الطبيعة النسبية للحقيقة، فالحقيقة المطلقة نوع من الكمال الذي لا يمكن، بل يستحيل، ان يوجد في هذا الكون الناقص بطبعه. وكل انسان يرى انه على حق من وجهة نظره، وهذا ليس عيبا او نقيصة طالما هو يؤمن بحق الآخرين في الاختلاف معه واحترام وجهات نظرهم، فهذا الكون يتسع لهذا الاختلاف الذي هو من طبيعة البشر.
بالرغم من التطور الفكري والعلمي الذي شهدته البشرية، والثورة المعلوماتية الهائلة منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وتطور وسائل الإعلام في مختلف المجالات، لا زالت ثقافة الاقصاء والتهميش التي تعني إبعاد الأخر وتجاهله، وعدم النظر إليه مهما كانت صحة مواقفه وصدق أقواله، سائدة في الكثير من المجتمعات الانسانية،وتمارس من دون رادع ديني او اخلاقي، وقد يصل الأمر إلى اتهام الاخر وحتى تخوينه بهدف اسقاطه. وهذه الثقافة يمارسها الكثير من الناس وبشتى الوسائل ومن مختلف الشرائح الاجتماعية في مختلف مجالات الحياة. وللأسف يعتبر المجتمع العربي من أكثر المجتمعات التي تحتضن ثقافة الاقصاء والتهميش بحق الآخر، وذلك بسبب تراجع الوعي وتدهور الاخلاق والثقافة.
الانسان الإقصائي هو شخص احادي التفكير، ينظر الى العالم من حوله بمنظور اما اسود او ابيض، ويعتقد دائما انه على صواب والاخرين على خطأ، واما ان تكون معي او أنك ضدي. وإذا رفض الاخرون الانصياع لتفكيره الضيق، يعمل بكل الوسائل المتاحة له –شرعية وغير شرعية - على محاولة إقصائهم، وذلك بالتشكيك في نواياهم والتقليل من شأنهم كبشر احرار ومستقلون. العقلية الاقصائية مرض اجتماعي يصيب بعض الأشخاص بالتطبع او التربية والتوجيه العائلي، وذلك عبر تلقينهم في سن مبكرة معلومات سلبية حول من هم مختلفون عنهم دينيا او مذهبيا او ثقافيا او عرقيا. العقل والمنطق يؤكدان ان من يتلقى معلومات سلبية متكررة حول من هم مختلفون عنه، حتما سيطلق نحوهم أحكاما مسبقة وظالمة.
معالجة هذه الآفة الاجتماعية تتطلب منا ان نعلم اطفالنا منذ الصغر على حرية الاختيار، وابداء الرأي الذي يعتقدون بصحته دون قهر او خوف. كما يجب ان ندربهم على التعايش مع من حولهم، وحثهم على احترام آراء الاخرين حتى لو كانت مخالفة لآرائهم دون تسفيه او تحقير، وبهذا نضمن تخريج أجيال تقدس الحرية الفردية وتحترم عقلها وتحتكم اليه في اتخاذ قراراتها.
كما يجب علينا ان نعمل على اصلاح المؤسسات التعليمية، وتنقيحمناهج التعليم من كل ما يثير الفرقة بين مكونات المجتمع، وتهميش الآخر والنظر اليه بدونية. كما يجب البدء بتدريس "ثقافة قبول الاختلاف في الرأي والفكر والدين والمعتقد"، وجعلها مادة تدرس في كل مراحل التعليم بما فيها المرحلة الجامعية.
اخيرا، يجب العمل على تفعيل دور منظمات المجتمع المدني التربوية والثقافية والإعلامية لتأخذ دورها في توعية أبناء المجتمع،وان تجعل من مراكزها ومنتدياتها الثقافية منارات لنشر وترويجمفاهيم الحريات الشخصية، وثقافة تقبل الرأي الأخر واحترامه.ثقافة الاقصاء والتهميش ليست قدرا مكتوبا على امتنا العربية ولكنها ظاهرة اجتماعية قابلة للعلاج. يقول "الفارابي: "لا دولة فاضلة دون مواطن فاضل. وصدق الشاعر حين قال: "لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن أخلاق الرجال تضيق".
التعليقات