تعاني الليبرالية العراقية كما تعاني الليبرالية العربية بشكل عام من صورتها الغامضة في المخيال العربي وتردد مواقفها ازاء القوى الفاعلة في المجتمعات العربية..&
غموض الصورة يتعلق بمفاهيم الليبرالية ( الحريات - المساواة ) التي بقت على الرغم من أهميتها غريبة نوعا ما عن المجتمعات و لم تنجح القوى الليبرالية في تسويقها بشكل كفوء وجعلها أولويات لدى المواطن بالتزامن مع حاجاته المادية وذلك على خلاف نجاح القوى الاسلامية خلال عقود متتابعة من جعل مفاهيم الدولة الاسلامية تحت شعار ( الاسلام هو الحل ) أولويات لدى المواطن بشكل يفوق حاجاته المادية في الحياة.
&الليبرالية العراقية لم تاتي في الأصل كمحصلة لتوجهات نهضوية منبثقة من رحم المجتمع العراقي ومتطلعة للتفاعل مع التجارب العالمية بل نتيجة لحراكات نخبوية حدثت خلال أواخر العهد العثماني واستلهمت قيم التنوير الغربية الامر الذي أدى لاحقا الى وضعها في مواجهة غير متكافئة مع التيارات المتنوعة ( الماركسية والقومية والإسلامية).
وفي الوقت الذي تعاني فيه الليبرالية العربية من حالة الحيرة بين القلق من استبداد الاسلام السياسي السالب للحقوق والحريات الفردية والقلق من الاستبداد العسكري السالب للحقوق والحريات السياسية تمر الليبرالية العراقية بتجربة خاصة تتعلق بمعايشتها لتجربة الاسلام السياسي وفشل هذه التجربة في توفير المتطلبات المادية واحترام الحريات والحقوق وما تفرزه تلك التجربة من آثار قيمية تعصف في عمق المجتمع العراقي.
يمكننا تصنيف نمطين من النشاط الليبرالي العراقي بعد عام ٢٠٠٣، أولهما ثقافي خجول ومبعثر تجسد في تصدي النخب عبر وسائل التواصل الأجتماعي ومواقف فكرية اخرى ازاء بعض السياسات السالبة للحريات ( قانون الأحوال الشخصية الجعفرية- اختفاء او اعتقالات الناشطين المدنيين وغيرها) مع غياب خطاب مركزي. وثانيهما سياسي فاعل جسده انخراط النخب الليبرالية في الموجات المتعددة للاحتجاجات التي بدات خلال عهد المالكي وتتالت فيما بعد.&
لم تنجح القوى الليبرالية العراقية في جعل نقص الحريات وسوء تطبيق الديموقراطية والحكم الرشيد والإصلاح محاورا تحتل نفس أهمية محاور نقص الخدمات والإصلاح في أولويات المواطن المتذمر. لم تستطع النخب الليبرالية العراقية على سبيل المثال من تحريك الشارع ازاء اغتصاب إرادة الناخب العراقي في الانتخابات الاخيرة من خلال عمليات التزوير وحرق صناديق الاقتراع ولم ترقى ردود فعلها ازاء حملة الاعتقالات الواسعة والأخيرة للناشطين المدنيين في البصرة الى مستوى الخطورة الذي يمثلها واقع تراجع الحريات... وهي اسباب ( مع غيرها ) أدت الى عرقلة بلورة مشروع وطني بخطاب موحد وفرض المنهج الليبرالي ( على الأقل خلال المرحلة الحالية والى أمد قريب ) كخيار بارز أمام تراجع قوى الاسلام السياسي.&
من جهة اخرى لم تفلح النخب الليبرالية العراقية في فرض بعدها الوطني على الساحة السياسية حيث لم تمثل - على سبيل المثال - الاعتقالات التعسفية وانتهاك الحريات في المناطق الغربية والشمالية (هماً وطنيا) لدى نخب الجنوب ولم تمثل الاحتجاجات في الجنوب والانتهاكات التي تبعتها (هما وطنيا) لدى نخب المناطق الاخرى..&
ولكن كل ذلك لا يحجب صعود المنهج الليبرالي تدريجيا كخيار مستقبلي للأسباب التالية:
١ ارتباط الليبرلية بالمخيال العراقي المعاصر بالكفاءة والنزاهة استنادا الى فشل المناهج السابقة وشعاراتها والى ذاكرة نجاح تأسيس الدولة العراقية التي ساهمت بها النخب اللبراليية.
٢ تراجع صورة اغتراب الليبرالية لدى المواطن العراقي نتيجة تبعية النخب الحاكمة الحالية للخارج للمناهج والسياسات الأجنبية.&
٣ ولادة ليبرالية" شعوبية" من رحم الاحتجاجات كرد فعل على السياسات القمعية وهي على الرغم من هشاشة تكوينها النظري والعملي فإنها تنبئ برسم ملامح مرحلة جديدة في تاريخ الليبرلية العراقية استنادا الى أدبياتها ( شعارات - وسائل تعبير فنية ) والى مواردها البشرية الشابة وكذلك التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية التي تحدث في المنطقة.&
السمة المطلبية ( غير الأيديولوجية ) للاحتجاجات جعلتها قادرة على وضع نواة لبوصلة جديدة في العمل السياسي مرتبطة بنجاح الأداء و عابرة للتخندقات والرمزيات والهياكل التقليدية الامر الذي يخلق ظروفا مناسبة لنجاح الليبرلية في العراق خلال المراحل القادمة.

*باحث وأكاديمي عراقي. مدير المركز الاوربي العراقي في باريس.
&