&

كتب الأستاذ احمد عبد الحميد بصحيفة اخبار الخليج في السابع من شهر أكتوبر الجاري يقول: "اكدت حكومة مملكة البحرين أن برنامج التوازن المالي يسهم في استدامة الأوضاع المالية واستقرارها لاستمرار استفادة المواطن من التنمية وترسيخ قواعد صلبة لضمان استدامة الموارد الوطنية والاستفادة منها لا بنائنا وللأجيال القادمة، إذ سيسهم في تعزيز تطوير واستدامة الخدمات الحكومية في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، وتعزيز كفاءة وعدالة الدعم الحكومي المباشر لمستحقيه من المواطنين، واستمرار دعم خدمات الكهرباء والماء للمواطنين في مسكنهم الأول. جاء ذلك ضمن تفاصيل البرنامج الذي نشرته وزارة المالية على موقعها الالكتروني عقب التوقيع على الترتيبات الاطارية مع الأشقاء في المملكة العربية السعودية والامارات والكويت والتي تضمنت المساهمة بمبلغ عشرة مليارات دولار لتعزيز استقرار المالية في مملكة البحرين. ويتضمن برنامج التوازن المالي مؤشرات أداء لمراجعتها بشكل دوري، وذلك بهدف تقليص العجوزات في الميزانية العامة التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في السنوات الماضية، كما يهدف البرنامج إلى خفض واستقرار الدين العام للناتج الإجمالي المحلي على المدى المتوسط، بعد أن ارتفعت نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الإجمالي من 13% فقط في عام 2008 لتصل إلى 87% مع نهاية النصف الأول من عام 2018، إذ من المؤمل أن ينخفض الدين العام إلى 82% في عام 2022، وقد كان من المتوقع أن يصل إلى 104% في حال عدم تطبيق برنامج التوازن المالي."
كما نشرت وزارة المالية بمملكة البحرين على موقعها الالكتروني تفاصيل التوازن المالي، وهو برنامج حكومي يهدف إلى تحقيق التوازن بين المصروفات والايرادات الحكومية بحلول عام 2022، والذي سيتضمن مجموعة من المبادرات لخفض المصروفات وزيادة الإيرادات الحكومية واستمرارية التنمية ومواصلة استقطاب الاستثمارات. وقد كان الدعم الحكومي لهيئة الكهرباء والماء في عام 2014 حوالي 350 مليون دينار، وانخفض في عام 2018 إلى 189 مليون دينار، ومن المتوقع ان يتحقق التوازن في عام 2022. كما أوضحت الوزارة بأن المبادرات تتضمن تقليص المصروفات التشغيلية، وطرح برنامج تقاعد اختياري لمن يرغب من موظفي الحكومة، وزيادة كفاءة هيئة الكهرباء والماء لتحقيق التوازن بين إيراداتها ومصروفاتها، وتعزيز كفاءة عدالة الدعم الحكومي المباشر لمستحقيه من المواطنين، وتعزيز كفاءة الانفاق الحكومي، وتسهيل الإجراءات الحكومية، وزيادة الإيرادات غير النفطية، مشيرة إلى أن الأثر السنوي المتوقع لهذه المبادرات يهدف إلى تقليص العجز خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2017 بمبلغ 854 مليون دينار، وذلك من خلال ثلاثة محاور هي: خفض المصروفات وزيادة الإيرادات وإعادة توجيه الدعم الحكومي لمستحقيه، مشددة على تقليص العجز في الميزانية العامة بتطلب مواصلة تلك الجهود من خلال وضع برنامج يحتوي على مبادرات إضافية مفيدة. ويبقى السؤال ما هو دور المواطن البحريني في تعزيز هذه المبادرات الحكومية لإنجاحها؟
لنبدأ عزيزي القارئ مقالنا بتعريف الدين العام، وهو ببساطة شديدة مجموع الديون المقررة على الحكومة، وهي جملة سندات الضمان المملوكة لأطراف خارج البلاد، إلى جانب سندات وزارة المالية، والمملوكة لأطراف داخل البلاد. وقد قدر الدين العام الياباني في عام 2017 بحوالي 253% من الناتج المحلي الاجمالي، بينما قدر الدين العام في والولايات المتحدة بحوالي 105.4%، وسنغافورة 110.6%، وفرنسا 97%، وبريطانيا 85.3%، والصين 47.6%، وسويسرا 29.7%، وروسيا 12.6%، والمملكة العربية السعودية 17.2%. اما الدين العام بمملكة البحرين، كما طرح سابقا، فقد قدر بحوالي 87% من الناتج المحلي الإجمالي مع منتصف عام 2018.
وقد نقاش البرلمان البحريني خلال دورته الماضية عدة مرات معضلة الدين العام، وقد نحتاج لنتدارس معا هذه المعضلة المعقدة من خلال تقييم التجربة اليابانية، وقد اخترت شخصية اقتصادية عالمية خبيرة في هذا الموضوع، وهو الاقتصادي البريطاني ادير ترنر، رئيس مؤسسة التفكير الاقتصادي الجديد، حيث كتب هذا الشهر مقالا بالمجلة الإلكترونية، بروجيكت سنديكيت، وبعنوان، النموذج الاقتصادي الناجح، يقول فيه: "الناتج المحلي الإجمالي لليابان متأخر عن معظم الدول المتقدمة، ومن المتوقع ان يستمر مع انخفاض عدد السكان تدريجيا، ولكن المهم هو مؤشر رفاهية الانسان، وهو الناتج المحلي الإجمالي للفرد، وعلى هذا المستوى تتفوق اليابان على باقي الدول. فيكرر معظم الاقتصاديين بان النموذج الياباني الاقتصادي قد انفجر، فمنذ عام 1991 لم يزداد النمو الاقتصادي السنوي عن 0.9%، مع أنه كان 4.5% خلال العقدين الماضيين، فالتباطؤ الاقتصادي، مع ارتفاع الدين العام، ومع انخفاض التضخم اقتصادي لقريب من الصفر، رفع الدين الحكومي من 50% إلى 236% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد حاول رئيس الوزراء الياباني، شنزو ابيه، ان يرفع نسبة التضخم الاقتصادي إلى 2%، ولكن بالرغم من خمس سنوات من صفر نسبة الفائدة، وتسهيل مالي ضخم، فشل في تحقيق ذلك. كما ان نسبة الخصوبة المتدنية إلى 1.4، مع نسبة الصفر من الهجرة الأجنبية، يعني بأن نسبة القوى العاملة ستنخفض إلى 28% خلال الخمسين سنة القادمة، مما سيجعل من الصعب تغطية كلفة الرعاية الصحية للمسنين، ومما سيزيد من العجز المالي للحكومة، والذي وصل حتى الآن 4% من الناتج المحلي الاجمالي، ولخفض هذا العجز هناك ضرورة لرفع الضرائب، وخفض الصرف العام، لمنع أزمة الدين العام، كما أن هناك حاجة لإصلاحات في البنية الاقتصادية، لرفع نسب التنمية الاقتصادية. وبالرغم من جميع هذه المعضلات، فالحكمة القائلة بفشل النموذج الاقتصادي الياباني قد تكون خاطئة، فمع ان التغيرات الديموغرافية تحدياتها معقدة، فقد تكون لها بعض الفوائد، كما أن استدامة الدين العام الياباني أسهل مما يبدو. صحيح بان الناتج المحلي الياباني متأخر عن معظم الدول المتقدمة، ولكن المهم لمؤشر الرفاهية، هو النتاج المحلي الإجمالي للفرد، مع مؤشر جني، لعدالة توزيع الثراء، فاليابان متفوقة على الجميع، حيث هناك نسبة نمو سنوية تصل إلى 0.65% منذ عام 2007، والتي هي مساوية للولايات المتحدة، بل أفضل من بريطانيا 0.39%، وفرنسا 0.34%، وهو ليس سيئا لدولة تعتبر بها اعلى مستوى رفاهية حياتية. ونعم فقد كان نمو النتاج الإجمالي المحلي للفرد أسرع في الولايات المتحدة خلال 25 سنة الماضية، ولكن لم يتشوه الاقتصاد الياباني من سوء توزيع الثراء، الذي ترك العمالة الامريكية تعاني من الركود الحقيقي للأجور، فالبطالة في اليابان اقل من 3%. فقد اثبت الاقتصاد الياباني كفاءته في توفير الرفاهية للشعب، كما ان نسب الجريمة الأقل في العالم، ليعني بان النموذج الاجتماعي الياباني يؤدي واجباته بجداره. كما ارتفع عدد السواح من ستة ملايين في عام 2002 الى عشرين مليون في العام الماضي، طبعا ما هو حقيقي اليوم قد لا يمكن استدامته مع التغيرات الديموغرافية القادمة، ولكن التوقعات بان نسبة العمالة لنسب المتقاعدين ستنخفض من 2.1 الى 1.3 تضخم المعضلة، لأنها تحدد سن التقاعد عن العمل بي 65 سنة، وتنسى بأنه من الممكن رفعه إلى 70 سنة. كما تتصدر اليابان دول العالم في التطورات التكنولوجية التي تبقى الانسان يعمل لمدة أطول، كما توفر تكنولوجيات متطورة للإنسان والذكاء الآلي. اما لمتشائمي موضوع الدين العام وشد الحزام، فنقول قد يكون الدين العام 236% من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن حينما نحسب أصول المالية للحكومة سنجد بان تقدير مؤسسة النقد الدولية للدين العام 152% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع أن البنك المركزي الياباني يملك سندات حكومية تقدر بحوالي 90% من الناتج المحلي الإجمالي، والتي سترجع لميزانية الحكومة مع أرباحها. ولو طرحنا الأصول المالية الحكومية، والأصول التي يملكها المواطنين، سينخفض الدين العام الى 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم ممكن التعامل معه بسلاسة. وهذا هو السبب بأن الاقتصاد الياباني مستقر، كما أن على الين الياباني، والسندات اليابانية، اقبال شديد، مع أن الحكومة خفضت نسب الفائدة لتقارب الصفر. وطبعا، لا يعني ذلك بعدم وجود تحديات كبيرة، حيث سترتفع كلفة الرعاية للصحية مع زيادة عدد المسنين، ولكن ستستطيع تكنولوجية اليابان المتطورة أن تتعامل مع تحديات الديموغرافيات السكانية القادمة. ويبقى السؤال كيف يمكن الاستفادة من التجربة اليابانية لمعالجة معضلة الدين العام في دولنا العربية؟
يعتقد اليابانيون بأن المواطنة الصالحة تلعب دورا هاما في خفض الدين العام، فكلما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي مع انخفاض مؤشر جني، وهو مؤشر عدالة توزيع الثراء في المجتمع، كلما انخفضت نسب الدين العام. ولرفع الناتج المحلي الإجمالي نحتاج لرفع انتاجية المواطن، من خلال زيادة ساعات العمل "الحقيقية" المنتجة، مع رفع مستوى كفاءة هذه الإنتاجية، من خلال دقة مهارات العمالة، واستخدام التكنولوجيات المتطورة، مع تناغم الذكاء البشري بالذكاء الآلي. ومع التخلص من ثقافة الاسراف والبذخ، مثل زيادة الصرف على السيارات الفخمة، المرهقة للبيئة وميزانية العائلة، والمزايدة في كثرة الاكل والشرب، وكبر حجم المسكن، وزيادة استهلاك الماء والكهرباء، وزيادة تراكم الزبالة. فلنتذكر كل جزء من هذه الاسراف يقلص الفرص الحياة الرغيدة لأطفالنا واحفادنا، مع زيادة الدين العام وارباحه، ومع انخفاض سعر العملة. والمثل الواضح هو الريال الإيراني الذي كان سعر صرفه للدولار الأمريكي في عام 1973، في عهد الشاه محمد رضى بهلوي، سبعة وستين ريال للدولار، لينخفض اليوم في عهد الثيوقراطية الايرانية إلى مائة وسبعة وستون ألف تومان، فهل ممكن تصور ما فعله بدعة ولاية الفقيه في الاقتصاد الإيراني وشعبه. ونحن والحمد لله في مملكة البحرين نصرف الدينار البحريني بأكثر من دولارين ونصف. وقد ساعدت ثقافة التواضع والبساطة اليابانية المواطن الياباني ان يستطيع ان يدخر جزءا من الدخل ليكون بنكا، يغطي مصاريف الدين العام الياباني. كما ان التمسك بحياة البساطة وتجنب البذخ قلل صرف الدولة على الإسكان، حيث ان سكن المواطن الياباني متواضع جدا، ويقدر بمتوسط ثمانين مترا للعائلة، التي تتكون عادة من الاب والام وطفل واحد او طفليين. كما ان المواطن الياباني متقشف في اكله، ويكون الصحن نظيفا تماما بعد انتهاء وجبته، فلا يكون للزبالة نصيب منها، وبذلك يقلل من صرف الدولة على الاكل، والتخلص من الزبالة. كما انه متقشف في الصرف على الماء والكهرباء، فلن تنفتح حنفية الماء الا بقدر ما يحتاجه لنظافته وطهارته، كما لن يكون مفتاح الكهرباء مفتوحا لا لضرورة الإضاءة والتبريد او التكيف اللازم، بالإضافة بأن جميع الآليات المتعلقة بها ذا كفاءة عالية في صرف الطاقة وبكمية قليلة من تلويث البيئة، وكلما قل الصرف قل تلوث البيئة. كما يقلل خفض كلفة الاكل والشرب من نسب الامراض المزمنة الغير وبائية، كمرض السكري واختلاطاته والضغط وزيادة الكوليسترول وامراض القلب والسرطان، والتي سترفع كلفة الرعاية الصحية مع نهاية هذا القرن إلى 25% من الناتج المحلي الإجمالي. كما قللت اخلاقيات السلوك في السياقة من كلفة حوادث المرور، والتي تعتبر السبب الأول للوفاة بين الشباب، مع كلفة عالية جدا في الرعاية الصحية لمعالجة اصاباتها. ويبقى السؤال: هل ستتعلم شعوبنا ثقافة الكفاءة والتقشف لخفض الدين العام؟ وهل ستلعب المعارضة "الشرعية" دورها بالتعاون مع الحكومة لتحقيق ذلك؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن كاتب بحراني