التناقض والتغيُّر في حياة الإنسان:
بين الحين والآخر نرى أو نقرأ أو نسمع عن الكثير من الحالات التي يطرأ عليها تناقضات وتغيُّرات في مواقفها ومعتقداتها واتجاهاتها، ومن ثم تبدأ التفسيرات الاجتماعية السائدة لهذا النوع من التغيُّرات، فنجد مثلاً: هذا قد انتكس وتلبَّسه الشيطان، هذا مجرَّد باحث عن الشهرة، هذا قد دُفِع له الكثير من الأموال لشراء مواقفه، وغيرها من تلك التفسيرات السطحية الساذجة والتي لم تعد مقبولة خصوصاً تلك المتعلِّقة بشخصيات له قيمتها ومكانتها العلمية والاجتماعية قبل أن يطرأ عليها هذا التغيُّر أو التناقض.
إن تلك التفسيرات ناتجة عن عدم فهم وإدراك لطبيعة الإنسان، فالتناقض والتغيُّر هو الوضع الطبيعي للإنسان، فلابد أن تتناقض وتتغيَّر لكي تكون إنسان، وحتَّى يكون هذا التناقض والتغيُّر في صورة طبيعية؛ فلابد أن يكون على مراحل متباعدة لكي لا يُعد نفاقاً من الناحية الشرعية أو مداهنة من الناحية السياسية أو اضطراباً من الناحية النفسية، وهناك حديث نبوي قد يُستدل به على أن التغيُّر والتناقض جزء من طبيعة الإنسان، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُكثر من دعاء(يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك) فيستعين بالله لكي يعينه على الثبات على دينه ومعتقده.
علماً بأن التغيُّر ليس بالضرورة أن يحوي التناقض، فقد يكون هذا التغيُّر مظهر من مظاهر النضج وزيادة الخبرة والمعرفة بفعل التجارب والتقدُّم في العمر...إلخ، فتبقى المبادئ كما هي ولكن يطرأ عليها تعديلات ما بين حذف أو إضافة أو إعادة بلورة...إلخ، بينما التناقض هو رأي أو اتجاه أو سلوك مضاد كلياً لما كانت عليه قناعات الشخص وتصرفاته في السابق، فيمكن القول أن كل تناقض تغيُّر وليس كل تغيُّر تناقض.
عند النظر إلى أعمال المفكرين الكبار في الماضي والحاضر، ستجد أنهم ينتقلون ويتغيَّرون ويتناقضون بصورة مذهلة وعجيبة! على سبيل المثال: عبدالله القصيمي من المدرسة السنية وأحمد القبانجي من المدرسة الشيعية، نموذجين بارزين، وغيرهما الكثير.
نكون في موقف من الذهول والاندهاش عندما نتأمل في عقل الإنسان والصراع الذي يعيشه مع الأفكار والتحولات والتداخل في التأثير المتبادل بين ماضيه وحاضره ومستقبله، جميعها عوامل تُحتِّم على الإنسان أن يتغيَّر ويتناقض، ومن لديه مشكلة مع التناقض أو أنه لا يتناقض ولا يتغيَّر فهو إما جاهل أو مجنون، لذا نجد أن الجاهل والمجنون أكثر راحة من الإنسان المُتعلِّم، إلا أن الأمر ليس على إطلاقه، فقد يشقى الجاهل بجهله في حالات ويسعد في حالاتٍ أخرى، وكذلك الحال بالنسبة للمتعلَّم، وكما يقول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
وبعيداً عن التفسيرات الدينية التي تدور في معظمها حول مفهوم(الشيطان)، فإنه بالتأكيد أن الإنسان خاضع لعدد من العمليات والعوامل المختلفة التي تجعله يتغيَّر وربما يتناقض كلياً، فالإنسان كائن معقَّد بعملياته العقلية والعصبية شديدة الغموض بالإضافة إلى التأثير المتبادل بين تلك العمليات والعوامل البيئية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، لذا فإن ثقافة الانتقاد والهجوم السائدة في الوسط العربي تجاه من يتغيَّر سواءً كان تغيُّر على مستوى الأديان أو المذاهب أو الفكر يجب أن تزول وتتلاشى ويحل محلها محاولة الفهم للآخر وتقبُّله كيفما كان.
إن الظروف والعوامل التي جعلتك تختار الإيمان بدين أو مذهب معيَّن أو تعتنق فكر دون آخر، هي نفس الظروف والعوامل التي جعلت الآخر يختار الإلحاد أو أي فكر آخر يناقض ما تؤمن به أنت، وطالما أننا على هذه الأرض ونعيش في وسط مادي فلا تتحدث عن الشيطان لأنه لايوجد حتَّى الآن جهاز تقني يكشف عنه ولايوجد مقاييس علمية يمكن أن تقيس نسبة استحواذ هذا الشيطان على عقل الإنسان، آمِن بوجود الشيطان وتأثيره كما تريد، ولكن لا تتَّهم الآخر به وتُعوِّل عليه في أنه السبب خلف تلك التغيُّرات التي شاهدتها فيه، فجميعنا نتغيَّر ونتناقض وسنظل نتغيَّر ونتناقض ولن يتوقَّف هذا التغيُّر والتناقض طالما هناك مجتمع وهناك إنسان.
&