بما أن العرب كلهم يجمعون أن ما حدث في فترة ما يسمى بالربيع العربي لم يكن ربيعاً على الإطلاق باستثناء من استفادوا منه مباشرة على مبدأ مصائب قوم عند قوم فوائد فأصبحوا رؤساء تؤدى لهم التحيات ويعزف لهم السلام الوطني بعد أن كانوا من عامة الشعب. لهذا من الغباء الاعتقاد بأن اليباب العربي انتهى فهو في أوله أو على أعلى درجات التفاؤل في أوسطه؛ فأنا أعتقد أن له مراحل ثلاث يقع هذا الهياج الاقتصادي الذي يعم العالم العربي هذه الأيام في مرحلته الثانية. ومن يدري فلا نعرف ماذا في جراب الحاوي بعد من فنون. 

لقد دلت المرحلة الأولى بأن كل العالم العربي من محيطه إلى خليجه مهيأ بشكل أو بآخر لمرحلة من مراحل الربيع العربي؛ فقد ظهرت المظاهرات في كل الدول العربية باستثناء الجزائر والسودان بعام 2011: ربما لأن هاتين الدولتي دفعتا الثمن مقدماً منذ زمان. لقد تم النفخ في بعض المظاهرات إعلامياً فأدت إلى سقوط الأنظمة كسقوط حبات المسبحة نظاماً بعد آخر وتم إهمال بعض المظاهرات في دول أخرى فتعاملت معها قوات الأمن فيها وأسكتتها بنعومة أو هكذا ظهر. ولو أن الحاوي أعطى الضوء الأخضر للرئيس التونسي المخلوع بن علي أو من تبعه من الرؤساء للتعامل مع المظاهرات بالطرق التقليديةلكانت النتيجة كما حصل بالبلدان التي توهمت أنها تجاوزت هذا اليباب القوي. فما الذي جرى؟ 

أذكر أن إعلامياً أردنياً ( نسيت اسمه) سأل شمعون بيرز في فندق على البحر الميت في زيارة رسمية للأردن بعد توقيع اتفاقية وادي عربة ربما معتقداً أنه سيحرج السيد بيرز ومعازيبه عن مقولة إسرائيل الكبرى والعبارة الشهيرة حدودك يا اسرائيل من النيل إلى الفرات، فأجابه بيرز بكل هدوء اليوم اسرائيل لا تؤمن بنظرية الاحتلال العسكري واستبدلتها بالتكامل الاقتصادي ويسعى إلى ما هو أبعد مما جاء في المقولة إياها. وبهذا نلاحظ أن الغاية بقيت وربما تطورت ولكن طريقة تحقيقها اختلفت. وقفزت هذه الحادثة إلى شاشة مخيلتي فور بزوغ اليباب العربي وما اعتقدتُ يوماً أنه انتهى ولكن كنت دائماًأردد مع مقولة أهل الشام بالمسلسلات الشامية "الله يجيرنا من شي أعظم". 

ما يجري الآن على ساحة البلدان وخاصة التي (لم تتأثر بالربيع العربي) هو الشكل الجديد للربيع العربي بحلته الجديدة وهي الاقتصاد؛ والطريقة ذاتها. يضغط البنك الدولي والدول الدائنة على الدول المعنية مطالبة إياها بتغيير سياساتها الاقتصادية من أجل اقراضها (إغراقها) من جديد؛ فيحتار المخططون فيوحي اليهم المستشارون برفع الدعم عن المواد الأساسية، فتثور الناس؛ فيصرح أحد المستشارين بأنه لم يطلب من الدولة رفع السعر فيكشف ظهر الحكومات للشعوب؛ وفي الحقيقة لا أدري كيف سيرفع الدعم دون رفع السلع وخاصة الأساسية. ولو استعرضنا خارطة الدول لوجدنا أنها تقريبا بنفس المركب. هنا تضطر الدولة للجوء إلى الدول الداعمة التقليدية فتدير هذه الدول ظهرها طالبة من الدول أن تعتمد على ذاتها لأن لديها ما يكفيها. 

إذاً فالعالم العربي يعيش الآن مرحلة اليباب العربي من جديد بغض النظر عن رأي الآخرين فيه. أعرف ربما ليس من أولويات الحاوي تغيير القيادات ولكني أعتقد أن التغيير سيكون في المجتمعات بحيث تبقى في حالة فوضى ربما تتطور لمظاهر عنف مجتمعي وتيه. يريد الحاوي أن تبقى الشعوب في حالة لهاث دائم ولا يهم متى ستنتهي. الشعوب في حيرة ولا تدري إن كان ما تفعله صحيحاً أم لا؛ فالشعوب منقسمة على نفسها فمنها من يرى أن المحافظة على كيانات الأوطان مهم وهو من أولى المطالب، وآخر يتفق مع القسم الأول ولكنه يصيح قائلاً نريد أمنا وأماناً مغمساً بالخبز؛ إن القائل "ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان" لم ينكر أهمية الخبز طبعاً. 

ولا أتفق مع القائلين بأن ما يجري الآن إنما هو تمهيد لتغيرات سياسية جذرية بالمنطقة ويتحدثون عن صفقات لكنها تستعمل كحقن تخدير فقط تماماً كما روج عرابو السلام منذ السبعينات من أن السلام سيجلب الخيرات والانتعاش؛ فلا السلام اكتمل ولا الانتعاش هل هلاله على المنطقة. فهل سيقى الربيع الجديد بوجهه الاقتصادي أم سيعود للشكل الأول؟؟ 

أما الربيع العربي بمرحلته الثالثة فهذا سيكون ربيع المال وربما يأخذ شكل الوصاية المالية لاحقاً. المهم لنبقى في ربيعنا الحالي دون استباق للأمور لكني أعيد ما بدأت به وهو أن لكل مرحلة ربيعها. 

والله أعلم