في مقال رأي لها نشرته مؤخراً صحيفة "صنداي تلجراف" البريطانية، طرحت الكاتبة جانيت ديلي سؤالاً مهماً يتعلق بالأمن والاستقرار العالميين، وهو: كيف يمكن التعامل مع دولة مارقة تتحدى القانون الدولي وتنشر الدمار؟

السؤال جاء على خلفية انتهاكات إيران للقانون الدولي، حيث ترى الكاتبة أن الدول الغربية عاجزة عن صياغة إجابة موحدة عن هذا السؤال الجوهري، وأن الاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى لم يفعل شيئا لمعالجة مسألة "دعم إيران للإرهاب" في المنطقة وفي العالم. كما لم يفعل شيئا في الحد من تطوير الصواريخ الباليستية، التي يمكنها حمل رؤوس نووية، ويمكن لإيران صنعها بنص الاتفاق، وترى أن الجميع كان يعرف أن الاتفاق هدفه الأساسي مجرد كسب الوقت.

الحقيقة أن غياب التعاون والتفاهم الدولي يمثل أحد عوامل الأزمة في التعامل مع إيران، وعلينا أولاً تفكيك أسباب الوضع الراهن وفهمه؛ فإدارة الرئيس السابق أوباما اكتفت بالتعامل مع ظاهر نوايا النظام الايراني وليس ما يخفيه، واكتفت كذلك بالتعامل مع تصريحات رموز النظام من الساسة من دون محاولة فهم أيديولوجية النظام ومحركات سياساته وأهدافه بعيدة المدى، لذا فقد جاء الاتفاق عبار عن محاولة لتأجيل تهديد مؤكد لمدة عقد من الزمن، من أجل تحقيق هدفين أساسيين لم يكن لهما أفق من الواقعية، وهما تطوير استراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها لتصبح بحلول عام 2025 في وضعية أقوى تمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية بحسب ماذكر المحلل نيال فرغيسون في صحيفة "صنداي تايمز"، والثاني هو تهيئة الفرصة لتفكيك النظام الايراني وتفجيره من داخله عبر توقع افتراضي بأن انفتاح النظام سيعقبه إطلاق صراع أجيال حضاري يسفر عن تحلل هذا النظام البائد على غرار ما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق، أو أن تمثر الخطة عن دعم التوجه الاصلاحي المزعوم داخل النظام وتقويته على حساب المتشددين، بما ينتج قيادة متصالحة مع الغرب تدفع البلاد نحو تغيير جذري، وقد كان هذا الافتراض بعيداً عن الواقعية تماماً لأنه يتجاهل توازنات القوى الحقيقية على الأرض داخل النظام، ويسلم مبدئياً بوجود فكرة عبثية هي فكرة الاصلاحيين والمتشددين داخل النظام الايراني، كما يتجاهل طبيعة هذا النظام واستبداده ومركزيته الشديدة وأدوات القمع والسيطرة التي يمتلكها لاخضاع الشعب الايراني.

كان أوباما يتوقع أن يميل النظام الايراني إلى الرشد والعقلانية تحت تأثير المكاسب الاقتصادية من وراء الاتفاق، بما يؤدي إلى امتصاص التوترات والأزمات الاقليمية، ولكن الذي حدث هو تصاعد النزاعات المسلحة، لأن النظام حصل على نحو 150 مليار دولار لم ينفقها في تحسين الأحوال المعيشية والحد من الفقر والمرض في إيران، ولم ينفقها على إصلاح التعليم وتوفير فرص عمل لملايين الشباب الايراني، بل ضخها في شرايين الميلشيات والأذرع الطائفية ليفجر العديد من الأزمات والصراعات دول عدة بمنطقة الشرق الأوسط، وليتباهي باحتلال أربعة عواصم عربية!

رداً على السؤال الخاص بآلية التعامل مع الدول المارقة، تقول الكاتبة إن الخيارات المطروحة هي فرض عقوبات دولية قاسية تضع مصير نظام الحكم فيها في مهب الريح وقد تضطر شعوبها لإطاحة الحكم عبر الاحتجاجات، أو الضغط عليها بقوة عسكرياً عن طريق حلفاء في المنطقة، أما الخيار الثالث هو أن تقدم لها "جزرة" كبيرة أو رشاوى سياسية في شكل اتفاقيات تجارية تفضيلية، قد تقنع نظامها بالتخلى عن مخططاته التسليحية مقابل ضمان الاستمرار في الحكم وتوفيرسبل الحياة لشعبه كي لا يثور ضده.

اعتبرت الكاتبة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اختار البديل الأول الخاص بالعقوبات القاسية في التعامل مع كوريا الشمالية، والحقيقة أن هذه الخيارات الثلاثة المشار إليها هي خيارات مرهونة بمدى التوافق الدولي حولها، وعدا ذلك لن يكون لها المردود المتوقع، فلولا مشاركة الصين وروسيا في في فرض عقوبات غير مسبوقة من جانب الأمم المتحدة ضد كوريا الشمالية، والتزامهما بتطبيق هذه العقوبات لما سمعنا عن ترتيبات لانعقاد قمة بين الزعيم الكوري الشمالي والرئيس الأمريكي، ولما شهدنا هذا التحول في سلوكيات بيونج يانج.

صحيح أن هناك تقارير شبه مؤكدة عن استكمال كوريا الشمالية لترسانتها النووي وانضمامها للنادي النووي وعدم حاجتها لمزيد من التجارب النووية والصاروخية، ولكن كان من الوارد أن تواصل التمرد واثارة الازمات، ولكن العقوبات أسهمت بقوة في وقت هذا التوجه المحتمل.

في الحالة الايرانية، هناك إعلان عن عقوبات أمريكية قاسية، وهي كذلك بالفعل، سيتم البدء بتطبيقها في غضون الأشهر القليلة المقبلة، ولكن هناك بموازاة ذلك حالة من عدم التوافق مع هذه العقوبات سواء من جانب حلفاء واشنطن في الاتحاد الأوروبي، أو من دول أخرى ترى أنها ملتزمة فقط بالعقوبات الصادرة عن الأمم المتحدة، وليست العقوبات التي تفرضها أطراف دولية ضد دول أخرى، وهناك طرف ثالث يرفض تماماً النهج الأمريكي في التعامل مع إيران ويضع مصالحه الاستراتيجية فوق أي حسابات تتعلق بالتهديدات الناجمة عن ممارسات النظام الايراني.

هناك إذا حالة من الفوضى والسيولة في العلاقات الدولية، وهي حالة تستغلها الأنظمة المارقة بتركيز شديد من أجل الافلات من الأثر المتوقع للعقوبات، أو الحد من الآثار السلبية لها على أقل تقدير، وهذا الأمر لا يصب في مصلحة الأمن والاستقرار الدوليين، وعلينا أن نتذكر جيداً أن الحالات النادرة في التاريخ المعاصر لفرض الأمن كانت نتاج توافق وتعاون دولي.

يمكن أن يتحقق الأمن والاستقرار وضبط سلوك الدول المارقة في حال اتفقت الدول الكبرى جميعها على إعلاء قيمة الالتزام بالقوانين والمبادىء والمواثيق الدولية، مع ضرورة الالتزام أيضاً بما تتوصل إليه مرجعيات دولية معترف بها في تفسير وتضنيف وتحديد أي انتهاك لهذه القوانين.