كثيراً ما&تحدثنا عن نزعة التوسع القومية التي تعشعش في العقل السياسي الفارسي منذ الأزل، والتي كانت ولا تزال سبباً لعشرات الحروب بين إيران وجيرانها، وعلى رأسهم العراق المُبتلى بهذه الجيرة مُنذ فجر التأريخ وحتى هذه اللحظة.&لكن&لنتحدث هنا عَن نزعة أخرى، ربما أخَف وأقل خَطراً، في العقل السياسي لجار آخر إبتُلي به العراق وهو تركيا، فالعقل السياسي التركي شبيه بالفارسي في نزعته التوسعية القومية، لكنه أكثر ذكائاً وإعتدالاً في التعبير عنها.&ففي الوقت الذي لا يَنكُر الفرس أطماعهم بالدول المجاورة لهم لا بل ويعلنونها بجُرأة لا تخلوا مِن وقاحة، يُخفي الأتراك هذه الأطماع رغم وجودها ويُعَبّرون عنها بأشكال مختلفة لتبدوا أكثر قبولاً لدى الغير.&وفي الوقت الذي لم تتوقف فوبيا الأطماع الإيرانية عن التأثير سَلباً في جيرانها بكل زمان ومكان، بغض النظر الظرف المُحيطة، فإن فوبيا الأطماع التركية بها مَد وجَزر وتمُر بفترات متفاوتة مِن السُبات والنشاط بالتناوب، وبما يتوافق مع طبيعة ظروف المنطقة. &

في السنوات الأخيرة، ومع تسَلّق حزب إخونجي متخلف بواجهة مُتمَدنة للسلطة في تركيا، وصُعود نجم رئيسه أردوغان بين بٌسطاء الأتراك والمسلمين&كزعيم مُنتظَر للأمة الإسلامية،&ومع ما وفّرته ظروف هستريا الربيع العربي مِن فوضى بالمنطقة، كان لتركيا دور بارز فيها ويَد طولى بتحريك ودَعم مُسَبّبيها، لكل هذه الأسباب وغيرها إنتعَشَت هذه النزعة مِن جديد في العقل السياسي التركي مَمزوجة&بأحلام إعادة&أمجاد سلطنة آل عثمان، يشجعها على ذلك دَعم غربي وعَديد قطيع العَوام المُندفعين مَع هذه الفكرة الغبية، يقابلهم عَديد قطيع العوام المُندفعين بغباء مع المشروع التوسعي الفارسي لإعادة أمجاد آل ساسان، وهو ما يُهَدّد اليوم بإحراق الشرق الأوسط وإدخاله بأتون حروب إقليمية قد تتطور الى حرب عالمية!

بدأ التدخل التركي الحالي مُتوارياً خلف الأخوان ودورهم القذر في أحداث ما سمي بالرَبيع العَربي، فيومَها عاش أردوغان الدور وحاول أن يصبح زعيماً لهذا الربيع، ثم أندفع بالدور أكثر يوم وصَل فايروس الربيع لجارته سوريا، فبدأ يَحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة بالشأن السوري، ويُطلق تصريحات نارية عن الحرية والديمقراطية اللتان لا تمُتان له ولحزبه بصلة، كل ذلك طبعاً تمهيداً لمَشروعه التوسّعي الذي سَعى لأن يبدو مُتحضراً مُختلفاً عَن الغزو الذي سَبقه قبل قرون، والذي غلبت عليه القسوة والهَمجية التي طبَعَت حُروب وغزوات تلك الأزمنة، وكان الإعلام أول سلاح إستخدمه العقل السياسي التركي ليُمَهّد لمَشروعه التوسعي، وقد ساعَد السوريون أنفسهم دون أن يَشعروا في الغزو الإعلامي التركي لبلادهم ولباقي الدول العربية والذي تم عَن طريق المُسَلسَلات التركية، فقد أدخلوا ثقافة المُجتمع التركي بأفكاره ومَأكله ومَلبَسه لبيوتهم، وأصبَح مُهند يتكلم سوري وصيته أشهَر مِن بعض المُمثلين السوريين، ولم يفكروا وهُم في غَمرة فرحَتهم بأموال الدبلجة التي تدرّها عليهم المُسَلسَلات بالنتائج الكارثية لهذا الغزو، الذي وبعيداً عن أهدافه الإعلامية مُتمَثلة باكتساح الشاشة وإبعاد المُسَلسَلات السورية والمَصرية عَنها، وأهدافه الإجتماعية مُتمَثلة بتخدير المُجتمع، فان له أهداف سياسية تتجاوز الإعلامية والإجتماعية كان السوريون أول ضَحاياها.&

وكما فعلت الأحزاب الموالية لأيران بعد2003&عندما قامت بتفكيك مَعامل العراق وإرسالها كخردة الى إيران، وتحديداً تلك التي تنتج وتُصَنّع مَواد مُنافسة للصِناعة الإيرانية، لتجعل مِن العراق بلداً مُستورداً لكل شي، وبالتالي سوقاً لتسويق خردة ولَنكات الجمهورية الإسلامية.&كذلك فعَلت التنظيمات المُسلحة المَدعومة مِن تركيا حينما سَيطرت على الأرض بالأيام الأولى للثورة!&حيث جرى العَمل على قَدَم وساق في بعض المُدُن السورية المُحاذية لتركيا لتفكيك المَعامل السورية المُصَنِّعة للمَلابس مثلاً، وبَيعها كخردة الى تركيا، لتحويل سوريا الأخونجية الداعشية، التي كانت تركيا وقطر تسعيان لتأسيسها مُستغلين غباء وإجرام بشار، الى تابعة لها تستورد منها كل شيء.

لقد باتت الصِناعة التركية صَرعة القرن ورَمز التطور والحَداثة بالنسبة لمُجتمعاتنا التي تعجز عَن صُنع إبرة، وبات شُغلها الشاغل اليوم التسَمّر أمام شاشات التلفاز يومياً لساعات لمُطاردة المسلسلات التركية من فضائية الى أخرى، وإذا سألتهم بَعدها&"ما قصة المسلسلة والمَغزى منها؟"&يفتحون أفواههم، فكل شي في العراق مثلاً بات يقارن بالصِناعة والمُسَلسَلات التركية، التي هي وبكل الأحوال أفضل بكثير من البضاعة الإيرانية الفاسدة والبائسة والخربة التي تغزو العراق وتعيث فيه فساداً وأمراضاً وتخلفاً، لكن كل هذا لا يُبَرّر لتركيا التدخل في شؤون جيرانها.&

رَغم أن الهَوَس الإسلامي الظاهري لدى الأحزاب الحاكمة في ايران وتركيا حالياً، زاد مِن نزعات نُخبهم السياسية التوسعية، كونه إمتزج مَع هَوَس قومي باطني مُتَخَمّر لديهم، مُوَلداً رغبة مُزدَوجة بإعادة أمجاد قومية بصِبغة خلافة إسلامية، و&"بَدل ما كنا بوحدة صِرنا بثنين"، إلا أنه ليس حَكراً عليه.&فالهَوَس القومي التوسعي كان موجوداً لدى أتاتورك وشاه إيران لكن بأقل حِدّة، وكانوا يُعَبّرون عنه بشكل دبلوماسي وليس كهؤلاء.&وقد عَرف عملاق السياسة العراقية الحكيم الراحل نوري باشا هذه الأمر وشَخّص خطورته&على مصير دولة العراق الفتِيّة ومستقبل أبنائها، لذا سعى لتوطيد علاقات العراق مع هذين الجارين العملاقين، ورَبطِه مَعهُم بروابط وأحلاف اجتماعية وسياسية وعسكرية كما جرت العادة بين أُسَر الممالك الأوروبية، فمِن جهة كانت هنالك مَساعي تُبذل لتزويج الملك فيصل الثاني مِن&أميرة تركية، توازياً مع مَساعي أخرى لتزويج الأمير عبد الإله مِن شقيقة شاه إيران.&نجحت الأولى وتمت خطبة الملك فيصل الثاني على الأميرة فاضلة حفيدة آخر&السلاطين العثمانيين، التي كانت ستكون ملكة العراق وأم مليكه المستقبلي، وهو ما كان سيربط العراق وتركيا بصِلة نسَب والتزام أخلاقي يمنع أي صِدام مستقبلي بينهما.&بالمقابل فشِلت مَساعي تزويج الأمير عبد الإله بشقيقة الشاه لعدم توافقهما.&في نفس الوقت كانت المحادثات تجري على قدم وساق لإقامة حلف إقليمي يكون العراق محوره، وبالفعل أثمرت الجهود عن تشكيل حلف بغداد عام&1956، الذي ضم في عضويته كل من العراق وإيران وتركيا وباكستان وبريطانيا وأمريكا، والذي بات العراق بموجبه حليف ستراتيجي لكل من تركيا وايران، تربطه بهما مصالح مشتركة، وخصوصاً الأخيرة، وهو ما كان سيفرملها ويمنعها من التفكير بالاصطدام به أو محاولة ابتلاعه والتوسع على حسابه، هذا طبعاً بالإضافة الى أهداف أخرى أُسِّس الحلف لأجلها، أهمها الوقوف بوجه المد السوفيتي الذي كاد يغرق العالم بتجربته الشمولية الدكتاتورية.

لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وهذا ما حدث مع&مؤسسي العراق&الأوائل، فقد ذهبت كل خططهم لتأمين مستقبل البلد والنهوض بواقعه الخدمي والمؤسساتي والمجتمعي أدراج الرياح، حينما تآمرت ثلة مِن الضباط المستهترين وخططت لإسقاط النظام الملكي، فقتلت الملك وسحلت نوري باشا والأمير عبد الإله، وقتلت معهم العراق وسحلت معهم هيبته ومكانته بين دول العالم فبات نهباً لكل من هب ودب، وهو ما أحيا الأحلام التوسعية للجارين العملاقين اللدودين، الذين حينما شاهدوا جارهم الصغير نهباً لسقط المتاع وشذاذ الآفاق وساحة لتصفية حساباتهم، قالوا لأنفسهم&"نحن أولى من الغريب"&فبدأوا يعدون العدة لذلك، وبالفعل أثمرت الجهود الحثيثة لإيران وأتباعها في العراق عَن تحَوّله الى حديقة خلفية لها ترمي فيها مخلفاتها من البضائع والساسة، وضيعة من ضياعها ونهباً لها، يأتمر كل مواطنيها من الرئيس الى المتسول بأمر الولي الفقيه، في حين&لعبت&تركيا تلعب في الوقت الضائع&عبر&دعم هذا التيار السياسي&أو ذاك عسى أن&ينوبها من الحظ جانب، حتى جاءتها فرصة سوريا التي رمت فيها بكل ثقلها ساعية الى أن يكون لها فيها نفس نفوذ إيران في العراق.&ورغم أن ظاهر الأحداث يظهر لنا بأن كل واحدة منهم تدعم أحد طرفي النزاع في العراق أو سوريا، إلا أن باطنها ولقاءات مسؤولي البلدين تؤكد وجود اتفاق ضمني على الخطوط العامة، في مقابل ترك التفاصيل الدقيقة لذيولهم المتصارعة&في سوريا والعراق وباقي دول المنطقة.

[email protected]