انتهت دولة الخلافة المزعومة وانتكست راياته المشؤومة ، الأكيد أن ذلك لا يعني نهاية الفكر المتطرف ولا طيّ صفحة الجماعات المتشددة، ولكن الكيان الذي لمع نجمه إبان الأزمة السورية، وبلغ ذروته العام ٢٠١٤ وضمّ تحت سطوته أراضي شاسعة من الرقة حتى الموصل، وهزم جيش دولة العراق، وحجّ إليه المتطرفون من كل أصقاع العالم، واجتمعت لحربه دول وقوى مختلفة ، أصبح اليوم معزولاً مرذولاً في منطقة ضيقة لم يسمع بها من قبل اسمها " الباغوز "، يقاتل حتى النزع الأخير من طاقته على الموت.

سينتهي التنظيم الذي اختلط فيه التوظيف السياسي بالويلات الإنسانية التي اقترفها، وتشويه صورة الإسلام مع إفساد الثورة السورية النزيهة، وقد بذل التنظيم وسعه في البشاعة والفظاعة وأقذع صور الرذيلة البشرية وقدرتها على العنف والدماء والذبح والإفساد في الأرض.

انتهى مخلفاً بؤرة سوداء كبيرة في جبين التاريخ ، ابتلعت كل مساوئ وعيوب هذا الزمن المتداعي ، وقذفت بأجيجها المأزوم في وجه منطقة مثقلة بالمتاعب وتنزف من بأس الأوجاع ، صورة الهجرات المريرة التي كانت تتوزع على السواحل والشطآن الأوروبية لن تنسى من ذاكرة إنسان ومكان هذه الجغرافيا المتعبة ، بعد أن خيّر الإنسان العربي المستضعف بين رمضاء النظام السوري ونار التنظيم الداعشي ، فاختار أن يرمي بأحلامه وأطفاله وحياته عرض البحار المشرعة للموت والمحيطات المتسعة بالمجهول.

ثم ماذا؟

محطة جديدة من الثقب الأسود الذي انشق أول الأمر في أفغانستان، ثم انتشر في الدول العربية ، واتسع على الراقع في العراق أيام الغزو الأمريكي ، وانفجر في أحلك صوره وأكثرها قتامة على الأراضي السورية ، زاده العجز الدولي والشتات العربي والدور الإيراني والتركي المشبوه ، تمدداً وضراوة .

سال الكثير من الحبر في نقاش هذه الظاهرة المروعة ، نظمت المؤتمرات وانتظمت اللقاءات، عقدت السياسات وانعقدت المؤتمرات، ولكن غيمة التشدد لم تنقشع من سماء المنطقة، وكأن من يغذيها ويعيلها لا يزال طليقاً حراً، ينفث سمومه ويبرم مشاريع الاستنزاف بلا حائل أو مانع.

وقدَر هذه المنطقة أن تنشب في هذه المتوالية العنفية بدون أفق للخروج ، أو نهاية لهذا النفق المعتم.

يخفت حضور تنظيم داعش في منطقة المنشأ ، فينشب أظافره في منطقة رخوة أخرى ، ولا ينقص هذه الجغرافيا مناطق هشّة تكون بيئات مفضلة ومشجعة لنمو الكيانات المنفلتة من عقالها.

تتناوب جماعات التشدد في الظهور والحضور ، ينفجر داعش فتختفي القاعدة ، يتراجع داعش فتسطع نار القاعدة من جديد ، جاهرة بالتهديدات وجاهزة لاستلام راية التشدد قبل أن تناول مثيلتها في مناسبة أخرى.

" داعش " وهو يستميت لآخر رمق من عمر عنفوان العنف لديه ، خلّف جروحاً مفتوحة في المناطق التي هرب منها ، ألغاماً تحصد أرواح الأبرياء حتى اللحظة ، مدن أشباح تركت خاوية على أنقاضها ، زوجات مسلحيه الذين يتكومون مع أطفالهم في مخيمات تديرها " قسد " على الحدود السورية العراقية عرضة للمجهول ، ومثلهن في سجون ليبية ينتظرون عفو بلدانهم الأم ، مشبعات بالفكر المتطرف، موقنات بأنهن لم يخطئن في شيء إلا نزراً ممن انكشفت له عورة التنظيم ودجل الشعارات التي تظاهر بها.

الآلاف المؤلفة من الشباب المدجج بالأفكار المتطرفة ، وكان يتنظم تحت شعارات الوهم المجاني ، يتوزع بين صريع مفقود ، أو شارد يهيم بحثاً عن بؤرة جديدة يزهق فيها زهرة شبابه وجوهرة عمره ، يطلبون فردوساً مجهولاً في ساحات الانتشار الجهادي الأخرى مثل ليبيا ودول الصحراء الأفريقية وأفغانستان وغيرها.

‏شاهدت جملة كبيرة من زوجات مسلحي داعش الخارجات من آخر جيبٍ للتنظيم المشؤوم ، إذ التقت بهن مجموعة من المحطات الفضائية ووكالات الأنباء الدولية ، كان مفاجأة صادمة بالنسبة لي وأنا أستمع لإصرارهن على الفكر الذي يتبناه التنظيم ويعمل على أساسه.

لم يضعف الولاء لديهن قيد أنملة، على الأقل هذا ما أجمع عليه جملة من سمعتهن في الساعات الطويلة من المشاهدة ، يبدو أن سنوات من إقامتهن داخل هذا الصندوق المغلق من الأفكار وضعف الاتصال بالعالم الخارجي ، يولد هذا التصلب في الرأي والإصرار على الأفكار والمقاربة التي نبذها كل شخص عاقل وسويّ.

شعرت لوهلة أن الكثير من هؤلاء في مسيس الحاجة إلى إعادة تأهيلهن ، وتفسيخ هذه الأفكار الملفقة التي تستبد بأذهانهن ، وإلا فإنهن والأطفال عبارة عن مشاريع جاهزة للانفجار في وسط مجتمعاتهم المختلفة ، ولديهن كامل القابلية والاستعداد لمواصلة المشوار الظلامي لحظة تلمع فرصة للانفلاش ولعودة دوامة العنف من جديد.