استذكر العراقيون قبل أيام الذكرى الـ31 لتحرير مدينة الفاو من الاحتلال الايراني لأراضيها، والذي دام لعامين خلال الحرب العراقية الايرانية في الثمانينات. ففي الساعات الأولى لفجر يوم 17 ابريل من عام 1988، شنّت القوات العراقية هجوماً كاسحاً، حققت بموجبه تقدماً سريعاً وتفوقا ميدانياً أدى إلى استعادة الفاو، وهو ما ساهم في الإخلال بالتوازن الاستراتيجي للقوات الإيرانية على طول الجبهة، إضطرت القيادة الإيرانية بموجبه فيما بعد إلى القبول بوقف إطلاق النار.

يومها تجَرّع الخميني أول وأقوى جرعات السم الـذي أجبره صاغراً على وقف الحرب بعد أشهر من نفس العام. ويومها تلقى مشروع تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية الظلامية ضربة قاصمة لـن تنساهـاعمائم إيران، إلا إذا سقطت يوماً عن رؤوس أصحابها مِن المـلالي وسقطت معهـا دولتهـا الظلامية، أو إذا إنتقمت لذلك اليوم بتدمير العـراق وإسقاطه من الخريطة وتحويله الى ولاية تابعة لهـا. ومايحدث اليوم في العراق، في جزء منه، هو إنتقام وثأر لتلك الأيام والأحداث، وفي جزءه الآخر تحصيل حاصل لمحاولة إعادة أمجادإمبراطورية بائدة أكل عليها الدهر وشرب بعناوين دينية وطائفية.

لا يختلف إثنان على أن النصر في معركة تحرير الفاو قد تحقق أولاً بسَواعد ودِماء وهِمّة وتضحيات العراقيين، جميع العراقيين، فقد سالت على أرضها وإختلطت دماء عباس وهيوا ومروان وحنا، يوم كانوا يتشاركون جميعاً سواتر جبهات القتال وخنادقها، يجمعهم هدف وطني واحد، ولا تفرقهم الإنتمائات الفرعية المختلفة. لكن ما كان لهذاالنصر أن يتحقق لو لم تقف خلفه إرادة دولية، عربية وغربية، كان تتريد للحرب أن تنتهي، ولو لم يحظى العراق يومها بدعم حلفائه منالدول الشقيقة والصديقة. فقد تسربت حينها أخبار، لم يؤكدها كما لمينفيها أحد، بأن الكويت مثلاً قد سمَحت للعراق بإستخدام جزيرة بوبيان كمعبر للقوت العراقية الى الفاو، وبأن الولايات المتحدة الأمريكية قد زودت العراق، بشكل مباشر أو عبر وسيط، بصور أقمار صناعية توضح مواقع تمركز القوات الإيرانية، هذا بالإضافة الى ماذكر عن دور المشير محمد عبد الحليم ابو غزالة وزير الدفاع المصري آنذاك، الذي عرف بخبرته العسكرية الواسعة، في تزويد القيادة العراقية التي كانت تربطه بها علاقة خاصة بالمعلومات اللوجستية وتقديم المشوره لها حول الخطط والتوقيتات المتعلقة بالعملية.

يقول المثل "ليس هنالك دخان من دون نار" لذا حتى لو لم تصح كلهذه الأخبار، إلا أنه في نفس الوقت لا يمكن أن تكون جميعها غير صحيحة، وإن صحت فهي بكل الأحوال ليست عيباً ولا سُبّة، بل على العكس، إذ ما كان للحلفاء مثلاً أن ينتصروا في الحرب العالمية الثانية لو لم يتعاونوا مع بعضهم ويتشاركوا المعلومات، وقد تجَسّدهذا الأمر مثلاً بصورة جلية في عملية نبتون التي قامت بها قوات أمريكية وكندية وبريطانية لتحرير شواطيء النورماندي الفرنسية ومجمل الأراضي الأوروبية من الإحتلال النازي.

لذلك إذا عدنا الى موضوع إستذكار حدث تحرير الفاو الذي إستهللنا به المقال، لا بد لنا في ختامه أن نتسائل عن المغزى من هذاالإستذكار الذي يتكرر سنوياً منذ ثلاثة عقود! وهل إستفاد شعبنا ونخبه السياسية والثقافية منه وأخذت منه دروساً تساعدها على تلافي الأخطاء عند التعاطي مع الحاضر والتخطيط للمستقبل؟الجواب للأسف هو أن لا مغزى نلمسه لهذا الإستذكار سوى البكاء على الأطلال، والإنتشاء بمشاعر نَصِر من الماضي لتعويض تواصلخيبات أحداث الحاضر، والهروب من واقع إستباحة إيران لكل العراقمن شماله الى جنوبه بعشرينات القرن الواحد والعشرين عبرالإحتفال بالإنتصار عليها في تحرير قضاء صغير كالفاو بثمانينات القرن العشرين! فنحن للأسف ﻻ نستذكر التأريخ لنراجعه ونتعلممنه، بل لنتفاخر به ونُخَدِّر به أنفسنا ومجتمعاتنا! وإلا لكان أول درس تعلمناه من تجربة الفاو هو أن اﻻمور يَحسِمها العقل والتخطيط والعلاقات الدولية المتوازنة المبنية على التخادم السياسي والمنفعة المتبادلة، وليس الهَمبلة والعضلات والعنتريات والشعارات، وما كنا لنخوض مغامرة الكويت الغبية بعدها بأسابيع معدودة، ولفَهِمنا بأننفس الإرادة التي ساعدتنا على استرجاع الفاو من ايران، يمكن لها أن تجبرنا على اﻻنسحاب من الكويت صاغرين مذلولين! وهو ما حدث فعلاً بعد تحرير الفاو بثلاث سنوات. أو لكنّا تهيئنا لهذه الأيام وتحسبنا لإيران، ولما سمحنا لها أن تأخذ بثأرها المؤجل، عبر التغلغل بمجتمعنا ومسخ الآلاف من شبابنا كمرتزقة بملشياتها، وتحويل بلادنا الى ساحة خردوات لخوض صراعاتها وتصريف مخلفاتها.

مصطفى القرة داغي

[email protected]