&
عاد الجواهري من منتجعات البحر الاسود تصحبه مرافقته سفتلانا.. رشيقة مليحة الوجه بتعبيره المحافظ.. كنت قد تعرفت عليها في لقاءات عابرة أثناء عملي الليلي في اذاعة موسكو العربية.. هي في قسم الندوات الاذاعية..&
يبدو من طبيعة التعامل بين الجواهري و سفتلانا انه لم يحقق معها انتصارا حاسما تحت سماء ليالي الجنوب المزدانة بجواهر السماء البارقة المتلامعة.&
.. يجلس الجواهري مع الرفقة المحببة من الوفد السوري، مع الشاعر شوقي بغدادي و الشاعرمحمد الحريري (فيل الوفد كما يدعوه شوقي).. تدخل (نِعـمةْ) الجميلة الباسقة بامتلاءاتها (الكافرة) متأبطة ذراع اسماعيل بحرارة (اسماعيل لا مكان له في الإعراب الا كونه أخاً لقائد الحزب).. يسير الزوج السمين المترهل خلفهما لاهثا متعرقا محملاً بعلب المشتريات الانيقة من اسواق موسكو (غوم) و(سوم) الضخمة..&
حين تلمح نِعمة الجواهري وهي تجتاز مدخل فندق موسكو، جالسا مع رفقته السورية، تنضم الى حلقتهم.. تحتضن الجواهري ممازحة من الخلف، قبل أن تجلس امامه بمرح وحيوية هازة شعرها العاتم وتخرج علبة سكائرها الذهبية.. يسارع الجواهري بولاعته ليوقد سيجارتها.. تضع ساقا فوق ساق.. ينظر بمرح الى الفخذين الممتلئين، هازا رأسه بحركة تنبيه ممازحة، ضاربا كفه على فخذه مرددا " حسبي الله ونِعمة الوكيل، حسبي الله ونعِمـة الوكيل ".. نِعـمة لا تبدل وضعية جلوسها، مخاطبة اياه " اكعد راحة ابو فرات.. تاليها وياك ! "
.. من مكان جلوسي معه المح (سفتلانا) من بعيد وهي تسير بجانب يوسف العانيمتجهين الى المصعد.. غرفة العاني غير بعيدة عن غرفة الجواهري في الطابق العاشر.. المحها مرة وانا متجه في الممر الى غرفة نوم والدي وهي تتسلل الى غرفة العاني.&
.. بضع فتيات جميلات يتجولن بين مجالس الوفود،حاملات اوتوغرافات صغيرة.. يقفن بقرب (فيل المؤتمر) محمد الحريري..&
- ما هو دورك في المهرجان يا استاذ ؟&
.. يبرز اليهن ذراعه الضخمة، مشيرا الى ان يلمسن عضلاته ويجيب :
- أنا مصارع ياباني قادم للمشاركة في عروض مباريات اثناء المؤتمر.&
&
&يبدو ان الجواهري كان قد رأى نفس مشهد تسلل سفيتلانا في يوم آخر، أو أن قوة حدسه قد قادته الى معرفة العلاقة بين الاثنين..&
.. يطلب ابدال المرافقة بحجة صعوبة فهم نطقها للعربية.&
.. (سالافيّ)- (البلبل) يصبح مرافق الجواهري البديل.. سالافيّ شاعر مجدد متقن للعربية في الثلاثينات من عمره..&
.. يبدأ الجواهري باظهار انزعاجه بشكل اكبر من تواجد "هذا المدعو.. أفندي سعيد؟!.. سعيد افندي؟! افندي يوسف؟!.. او يوسف افندي ؟! " يرددها في مجالسه.&
.. يوسف العاني ولسبب لا اعرفه (ليس في جبتي).. اولم استطع هضمه في حينه. .. لاحقا اُدرك وانا استعيد شريط الذاكرة أن السبب كان انزعاج الجواهري منه والذي انتقلت عدواه اليّ وليس لاي سبب منطقي آخر.&
&
نغادر أنا ومحمد مجلس الكبار-الجواهري وصحبه- ونتجه الى قاعة الوفود.&
.. في المصعد بين زحمة الواقفين نرى سارتر بوجهه المدور وعينيه المحولّتين المتقافزتين في الاتجاهات الاربعة بقامته القصيرة وبالسترة المهلهلة والبنطال الفضفاض.. يعلق محمد هامسا في اذني " بربك لو رايته في احياء بغداد العتيقة ألن تقول أن هذا (المهتلف) عربجي من باب الشيخ ".&
.. ننطلق انا ومحمد بين مجالس الشباب، حيث نجيب سرور زميلي في السكن بجامعة موسكو، والجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن.. نلتصق بيوسف ادريس حين نراه وندعوه الى مقهانا-مقهى الشباب في شارع غوركي..&
في ركننا المعهود من المقهى.. يوسف سيد الجلسة يتحدث بحماس عن الحركة الناهضة الجديدة في مصر.. عن حركة السلام بين الشباب هناك (كان يوسف ادريس احد نشطائها البارزين).&
حين يتحدث،كل شيء ينطق في وجهه الاسمر الباسم، بالعينين العسليتين التي تنفذ في مستمعها الى الاعماق، يده التي تتحدث باناملها، جسده الضخم حين يميل بوجهه نحوك بين حين وآخر.. يمغنطك.. بقوة جاذبية تفوق كل ما نعرفه، وفوق كل هذا يخجلك بتواضعه حين يضعك مقام الند للند بالحديث والحوار..&
كم ستنزل بك الخيبة والاحباط الى الحضيض بعد خمسة وعشرين عاما ويغمرك الحزن حتى الاختناق بالعبرات وانت ترى هذا المارد الادبي الجميل، عملاق القصة القصيرة، يتحدث في لقاء بُـث من تلفزيون بغداد عن مزايا الحر ب العراقية الايرانية الايجابية، وكيف انها توحد الامة وراء اهدافها وقائدها.. في الوقت الذي كان العراق كله تغمره مخاضة الدم الرهيبة..&
.. لقد وضع يوسف ادريس نفسه -ويا للاسف- في هذا الموقف المحزن، مع الاخرين من عشرات ادباءالارتزاق الذين سخروا اصواتهم واقلامهم ليستجدوا البطل التأريخي -الجغرافي، بطل الحفر الاسطوري والذين لطخوا اسمهائهم الادبية بدماء مئات الالوف الابرياء االمساقين قسراً الى الموت.&
.. هاانذا اعيد المشهد واراه اليوم امامي كما البارحة، وكما يقول الجواهري عني مستغربا ومعنفا في كثير من الاحيان " أأنت محامي البشرية كلها؟! ".. اجد لهذاالاديب العظيم، الخالد، الذي اعشقه عذر المحب المعجب، انه كان نزيل مستشفى الامراض العقلية قبل هذا الحديث بمدة (او مثلما كان هو يناشد الآخرين ليسندوه أنه ادخل الى المستشفى قسرا).. اضف الى ذلك تصوري خيبة امله الممضة- أكثرمما هي خيبتنا- وضياع كل القيم بعد نكبة حزيران الكارثية وتضحيات الشعب المصري المكافح، وبطولة الجندي المصري الفريدة في العبورالعظيم ومن ثم نهايتها المأساوية بـ(اتفاقية الكيلو 101).&
.. ولكن ماذا عن مئات الآخرين الذين مجدوا (بطل الحفر) المنتصر ابدا رغم هزائمه، أكانو قد اودعوا كلهم مستشفيات المجانين ليروا بعدها الشمس والقمر والهواء والشجر وحتى الله سبحانه في وجه القائد الضرورة.&
&
& &* &* &*
&
كنت منشغلا في تحضير بعض المواد الاذاعية وترتيب الاوراق، واضعاً اشاراتاً وخطوطا لمواقع التوقف اثناء قراءة السطور امام المايكروفون وكان الى جواري مسرور كتانة ومشتاق طالب وكوزيتا (عانس الاذاعة الاوزبيكية).&
.. نهضت كوزيتا مرحبة بسفتلانا المتوجهة نحونا.&
.. لم اعرها اهتماما كبيرا، غير انها انحنت هامسة في اذني :
- اريدك في كلمة سريعة !
- بكل ترحاب ولكن بعد ان اكمل قراءة النص الاذاعي لوسمحتِ.. لن يستغرق ذلك اكثر من ثلث ساعة.&
.. حين خرجتُ من غرفة البث الاذاعي المصمتة بادرتني :
- هل لي ان ادعوك الى فنجان قهوة في مقهى الاذاعة ؟
- بل ساكون شاكرا خصوصا بعد صداع غرفة الصمت المطلق تلك.&
اختارت مكانا منزويا من المقهى.. صمتت قليلا وبصوت مرتجف خافت حزين وقد ابتلت عيناها بالدمع :
- لقد تركني!.. تركني بعد وعود كثيرة.. كنت احسب اني سأرحل معه الى العراق.. تعرف من أعني !؟
- لا ابداً.. قلت ذلك متظاهرا بجهلي من المقصود.&
- ومَن غير يوسف العاني.. لا اتصورك تجهل ذلك، لقد كنت احس من ايام فندق موسكو، بأن الامر لم يفتك فانت ابن ابيك.&
- شيء مؤسف يا سفيتا.. مؤسف حقاً
- لكني اقصدك الآن بطلب غير صعب لكنه مهم عندي.&
- من عيني هذه لعيني تلك واشرت الى الواحدة بعد الاخرى.&
- لقد علمت من كوزيتا انك طلبت اجازة من عملك المسائي وانك متوجه بعد غد الى فيينا لحضور مهرجان الشبيبة.&
- هذا صحيح.. لعشرة ايام فقط.&
-لقد عرفت من مصادر موثوقة ان يوسف العاني سيكون ضمن الوفد العراقي القادم الى المهرجان.. رجاءي ان توصل اليه هذه الرسالة.. سلمتني الرسالة واخرجت منديلا من حقيبتها الصغيرة لتجفف عينيها الدامعتين.&
- سابذل جهدي كي اوصلها اليه.. هذا فيما لوكان قادما فعلا الى فيينا.&
&
كان مقعدي وسريري، في القطار الفخم المتجه الى فيينا عبر دول اوربية، مع الوفد الفنلندي.. رفقتي كانت في معظم الوقت مع فتاة حمراء، حمراء الشعر، حمراء الخدين، حمراء القميص، حمراء الحذاء، حمراء الانتماء وحمراء الليالي بعد ان تكرع نبيذها الاحمر في مطعم القطار.&
يقف القطار في مدن صغيرة.. نجد مهرجانات صغيرة بانتظارنا على الرصيف بموائد عامرة بالاطعمة المحلية والنبيذ والجعة وبفرق الموسيقى والرقص الشعبي.. بضع صبايا في المدينة المجرية الصغيرة يتقدمن بوجوه خجلة مرحة محمرة صوب الشاب السنغالي المرافق لنا في العربة.. تطلب احداهن ان تتلمس فرشاة الشعر المجعد المعثكل الخشن.. تمرر كفها الصغيرة فوق رأسه الذي قام باحنائه قليلاً وتقفز بعدها بفرحة المنتصر الذي حقق امنية عزيزة بفوزه.. الاخرى تسأله بخجل عن امكانية تقبيله من خده.. يدير لها وجهه المبتسم.. تستدير بعد القبلة لتحتضن احدى رفيقاتها بفرح.&
ها نحن قد وصلنا الى فيينا.. أجد مكاناً في سرادقات النوم غير بعيد عن الوفد العراقي واقرب الى الفنلندي، حيث الحمراء.&
في سماء المدينة الجميلة ترفرف فوقنا في كثير من الاحيان، لافتات طويلة تمتد وراء طائرات التدريب الصغيرة وقد خط عليها " تذكّر إنتفاضة المجر عام 56 !! ".. &" تذكّر مذابح بودابست!! ".. " تذكّر من ذبحهم الشيوعيون في كاتين !! "
.. يقف فوق رصيف الشارع المؤدي الى معسكر سكن الوفود ستة من الرجال الضخام.. اثنان يحملان لافتة مكتوب عليها " لانريد الشيوعيين في بلادنا " والبقية تحمل رزم كتب ومنشورات مناهضة للمهرجان..&
احاول تجاوزهم والوصول الى باب المعسكر.. يتصدون لي ويعرض أحدهم باستفزاز أخذ منشور وأحد الكتب.. أرفض.. يحيطني ثلاثة منهم غاضبين مهددين.. قبل ان يبادروا بالاعتداء علي اسمع صوت إمرأة عجوز تصرخ بغضب والمحها تركض حاملة مظلتها عالياً مهوّشة بها صوب المجموعة.. اميز كلمة " فاشست " بين بقية الكلمات الالمانية.. تنفض عني المجموعة التي تحوطني.. تقف السيدة العجوز بمظلتها واناقتها المميزة الى جانبي واقدّر أنها لا تقل عمراً عن الثمانين.. تتحدث معي بانكليزية طليقة " لا عليك من هذه الحثالة.. للأسف لايزال عندنا الكثير منهم في مدينتنا الجميلة.. هل شاهدت نصب شتراوس وتمثال بتهوفن.. هل زرت المتحف حيث كليمت و يوجين شيل والكاتدرائية العريقة.. فيينا مدينة جميلة وفيها الكثرة من الناس الطيبين.. ارجوك اقبل اعتذاري ومرحبا بك في مدينتنا ".. ارفع كفها المعروقة وانحني فأقبل اناملها.. تقف منتظرة حتى ابتعد قليلا عن المجموعة في طريقي الى بوابة المعسكر.. أستدير وانحني تحية لها واواصل سيري.&
&
تبدأ عروض افتتاح المهرجان باستعراضات الوفود في شوارع فيينا المزدانة التي لا تزال رسمياً تحت الهيمنة الامريكية والروسية.. لا تلحظ هذه الهيمنة على حياة المدينة الفخمة.&
كل الوفود قاطبة من كل ارجاء المعمورة تتقدمهم الموسيقى والراقصون والمهرجون وحشود السائرين التي تصخب بالابواق والمزامير والطبول والاغاني المرحة والبدلات الشعبية الزاهية الالوان.. إلا الوفد العراقي فهو يسير بوقار تتقدمه نخبة من الرفاق القياديين بالوجوه الرسمية وفي الطليعة يمشي (أبو الهُبْ) اخطر شقاة بغداد العتاة المرهوبين، لقد فاق صيته المرعب في ظلمة ازقة بغداد العتيقة، صيت الشقي الشهير (ابن عَـبدَكه) و الشقي الآخر (ابن الحجية).. أبو الهُـب يسير بوقار السلاطين بكرشه الضخم و(دشداشته) الطويلة وسترة الجوخ السوداء فوقها.. سبحة الكهرب الطويلة تتدلى من اصابع يديه وهوصامت مبتسم بهيبة ووراه حشد شباب الوفد يرددون بصوت رتيب ممل " هله بيها !.. هله بيها آآآه.. آآآه جمهورية، جمهورية آآآه.. ديقراطية شعبية.. إيه شعبية.. إيه شعبية آآآه.. "
كاكه فاضل القادم معي من موسكويخزني بكوعه كي نبتعد عن مجموعة (هلا بيها)&
&
.. أنطلق انا ومصورة المانية ببنطالها الكشفي القصير.. تعلق فوق رقبتها كاميرتين وبضع مرشحات للضوء.. نجوب الازقة العتيقة في مدينة الخمور القريبة وضفاف الدانوب.. احاول مغازلتها هنا فأجد نفسي سخيفا فهي منشغلة عني بعالمها الخاص.. بالطحلب الاخضر فوق جذع شجرة عملاقة، باعواد مكسرة وقش واوراق اشجار عتيقة ازاحها التيار فوق كومة من احجار الضفة.. بحزم الضوء المهشم وهوينفذ من خلال اغصان كثيفة متراقصة.. اترك محاولات التقرب الصبيانية وابدء بمصاحبتها بصمت مستمتعا بمراقبتها وهي تقفز كالطفل فرحا وتسير مسرعة منبهرة صوب اكتشاف جديد.&
&
.. على سطح قاعدة عالية لاحد التماثيل الرائعة في اكبر ساحات فينا يقف العملاق الاسود بشموخ.. تخفت الاصوات ويسود الصمت فوق رؤوس عشرات الآف من شباب العالم ونصف قاطني فيينا ومعهم القادمون من التيرول أو جنيف او من المانيا ليستمعوا وليروا عن كثب اسطورة الغناء بول روبسون..&
.. (جماعة (هله بيها) وابو الهُب تختار مكانا آخر لترديد اهزوجتها الفريدة).&
حين انطلق الصوت الجهوري العميق الدافيئ :
I dreamed I saw Joe Hill last night,
Alive as you and me
حتى هلل الحشد والارض والسماء وكل مافي الساحة فرحاً واستحسانا للأغنية المختارة ورأيت هذا العملاق الاسود يتطاول ليقارب رأسه السحاب العابر فوقه.&
.. صمت الحشد بسرعة ليواصل المغني الاسطوري سمفونيته.&
&
أجد الجواهري اخيرا في الطابق الثالث من فندق صغير.. أسلمه رسالة سفتلانا المعنوَنة الى يوسف العاني كي يوصلها اليه..&
.. كنت واثقا حين غادرته بعد حين أن مصيرها سيكون اقرب سلة للازبال يراها.&
&
& & * & * & *
&
" في هذه المراحل الانتقالية من تاريخ العراق وفي زحمة انشغالي بترتيب امور اتحاد الادباء ونقابة الصحفيين تأتي زيارتي الى الاتحاد السوفياتي للمشاركة في مؤتمر اتحاد الكتاب السوفييت بدعوة خاصة منهم، وكان ذلك في فترة الاهتزازات والمفارقات والنكسات التي تطفو على سطح علاقات نقابة الصحفيين..&
وبينما انا اهيء حقائبي للرحيل واذا بجريدة الحزب الشيوعي العراقي (اتحاد الشعب) تنشر نبأ يقول: ان وفداً - بالحرف الواحد - وفداً.. فلان وفلان سيغادر الى موسكو..&
الحقيقة انني تألمت جدا حين قرأت هذا النبأ لانني اعرف من يكون فلان هذا.. اعرف انه بعرف المقاييس الادبية لايستطيع ان يكمل بيتا شعريا واحدا واعرف أنه بعيد كل البعد عن اية علاقات ادبية وترشيحه معي بغض النظر عما فيه من مساس لكرامتي،
فتخريب او ما يشبه التخريب للدعوة الخاصة بي والموجهة اليّ شخصيا.&
غريبة هي امور اخواني الشيوعيين، لماذا لم يختاروا من بين كل اعضائهم إلا هذا الرجل الذي لاعلاقة له بي بأي وجه من الوجوه.&
ولم يكتفي صاحبي هذا بذلك، وكان قد عُين لنا مرافقا روسيا في تجوالنا وتصريف امورنا، واذا بهذا (الموفَد) يستولي عليه بدعاباته واحاديثه المضحكة ولأبقى وحيداً سجين غرفتي ليوم اواكثر حيث شاء الحظ أن يتصل بي (جورج تللو) وهو من الطلائع الخيرة من الحزب الشيوعي، ولا يخلو كل حزب من طلائع خيرة وشباب واعٍ ويسألني عن حالي ووضعي.. حين اخبرته بواقع الحال اتصل مباشرة بمؤسسة الشبيبة (الكومسومول) الآمرة الناهية وقتذاك، فينقلب الواقع من حال الى حال وتكون الضارة نافعة بل ونافعة جدا.. ولقد كان من تأثير المسؤليين في الشبيبة السوفياتية بل ومن غضبهم على هذه المفارقة البغيضة بأن لم يكتفوا باراحتي من هذا المرافق الثقيل بل وبعزل المسؤول الموكل بنا.&
لقد جاءتني هذه الساحرة لتجري معي حديثا لاذاعة موسكو ولكم تمنيت وقد فتنت بها لاول لحظة ان تبقى الى جانبي ولو ساعات قصارا.. وما لبثت هذه الامنية أن اصبحت واقعاً ومن صميم تكريمهم قرروا ان تكون هذه الرائعة. مرافقة لي.&
بقينا في موسكو ليومين او ثلاثة وبعدها اريد لي ولا اقول لها، أن تكون مرافقتي الى المصح في (سوجي)على البحر الاسود..&
قلت انها عالقة بدمي لانني حتى هذه اللحظات التي يتسنى لي بها سماع اذاعة موسكو فاذكر غنجها ورقتها،اذكر عذوبتها، اذكر صلابتها وقوة ارادتها، اذكر رقتها وكبرياء مواقفها الى الدرجة التي اربكتني واوقعتني في القلق وانا بين ايدي الاطباء، متساءلا : كيف تنتصر ارادة الموقف في مقاومة احساس شاعر يطمح حتى بلمسة من يدها..&
.. تعافيت تماما في ذلك المصح، وكان اول شاهد على ذلك ولدي الدكتور فلاح الذي كان يدرس الطب في موسكو، حيث يكاد لا يتعرف علي لا بسبب الطاقية، بل بسبب ماطرأ على صحتي من تحسن..&
عدت الى موسكو وفيها تلقيت الدعوة الى هنغاريا.. بلغاريا.. ثم الى المانيا الشرقية واخيرا فييينا.. ولبيت هذه الدعوات كلها. "
&
محمد مهدي الجواهري