ما الذي يحدث في جسد النص الشعري حين يكون مشمولا بفضاء آخر مغاير، قادم من المنظومة الجمالية الموروثة؟
لعل السؤال يفضي إلى يقين آخر: ما الذي يفعله النص القادم من الموروث في النص الراهن؟
بالطبع هذا سؤال تناصي كريستيفي، وهو يمذهب الاشتغال الأبرز في هذا المجال الذي تتداخل فيه النصوص وتقتطف من سلالات بعضها البعض رؤى وتعبيرات، واستلهامات، وصورا وأخيلة تتعزز فيها بنية النص الحاضر، ويصبح النص القادم ثاويا في خلفيته الإدراكية بتوهج ونزق.&
عبر 160 صفحة – سوى المقدمة النقدية - تقدم الشاعرة سناء البنا رسائلها الشعرية المعنونة ب" رسائل إلى مولانا" والغلاف الداخلي يحدد مولانا جلال الدين الرومي ((604 هـ - 672 هـ - 1207 - 1273 م) وفي التو يلفتنا العنوان إلى هذا الفضاء الصوفي، حيث ينتمي جلال الدين الرومي، وحيث أبدع – كعادة كبار المتصوفة المبدعين- في قراءة غيب الكلمات، وفي استشفاف الروح واستبطان عوالمها بالتماهي والامتزاج السماوي الإلهي.&
في محاولات شعرية نسوية عربية متكثرة نطل على هذه التجارب التي تستدعي الأفق الصوفي للقصيدة، بل إن هذا الاستدعاء لا يصبح مجرد عناصر مجلوبة إلى النصوص أو إلى توجه الشاعرة نفسه، ولكنه يصبح حالة من حالات الرؤيا الشعرية نفسها ونهجا من أنهاج الإبداع لدى الشاعرة.
ونتذكر في هذا الأفق محاولات لعاتكة الخزرجي، وملك عبدالعزيز، وعلية الجعار، ثم تجارب للشاعرة الدكتورة بشرى البستاني في " مخاطبات حواء" وغيرها من التجارب، وفي ظل هذا الأفق تجدد الشاعرة سناء البنا هذه التجارب فتقدم هذه الرسائل التي تكتبها على شكل مقاطع متتالية منفصلة متصلة معا، دون ترقيم ودون تسمية.&
العنوان يتيح المجال للتساؤل مبدئيا عن هوية الرسائل جماليا، وكيف استندت على أفق الشاعر جلال الدين الرومي؟&
&
رقص . موت. عدم:
في جلال الحب تكتب الشاعرة وتتماهى مع دلالاته. هو حب بشموله الوجداني والروحي، وحين يمسه الجلال الصوفي تصبح الروح أكثر بياضا، وأكثر اشتياقا إلى (هناك) حيث تتفتح الحجب، وحيث تعلو لغة وراء لغة، وترميز وإشارات وإيماءات تخلقها المفردات والمفاهيم الصوفية، وتصنعها الحالة الشفافة للروح التي ترى أبعد وتقتنص هواجسها عبر الخفي، والغائب، واللا- مرئي، وقد جاء البدء هكذا:
.. وأرقصُ في خفة رصاص
طاعنةً في الموت البليد
كشعلة قنديل مغمور بالشموس&
وتنهمر موسيقاك الجنائزية رشيقة&
ترشقني بلسعة صوت
أموتُ وأحيا مرارا
ثم أموتُ حتى المنتهى الملقب بالعدم
تأتيني بالدمع والكفن
وكفين فوق جبيني من تراب اللا ندم
وأنا مكاني أرقص حتى الشجن
لا أراك، ولا تراني.
البدء بهذا النص يوقظ فينا – قرائيا – جملة من الدلالات، تتمثل في أن الشاعرة تقلنا إلى صيغة: الموت/ الرقص، حيث الموسيقى، والضوء، والصوت، حيث الحزن الغض، والدمع، والعدم ، حتى تصل إلى الغياب الأخير: العدم، حيث لا رؤية ولا رؤيا. يتلاشى هنا في هذه الرائي والمرئي، يتلاشى كل شيء سوى هذه الرسائل والكلمات التي تتجلى روحيا، حيث يصفو هناك كل شيء ويتخاطب بعدمية مفرطة.&
في هذه اللحظات الشاعرة لا تمنطق الشاعرة أشياءها، وتذهب بوعي شعري جمالي مؤطر بسريلة ما، بصوفية تفارق محسوساتها، وبتأملات شاردة حرون طليقة، وهذا هو فعل الشعري الذي يكمن هناك في طوايا الروح وتجليات النفس.&
لا تسمي الشاعرة نصوصها أو تعنونها، ولا ترقمها كمقاطع شعرية، لكنها عبارة عن رسائل شعرية متدفقة، يمكن لنا أن نقرأها من البدء أو الخاتمة أو الوسط، حيث لا زمنية مرتبة بتراكم رأسي أو أفقي. ينقطع الزمن الدلالي ليتقدم الزمن الجمالي الذي تشكله القراءة.&
الشاعرة مكتظة بأناها، لكنها تستدعي الآخر دائما في أعماق النصوص/ الرسائل، معرفة نفسها بتعريفات شعرية مجنحة: " لن أكون امرأة في آخر سطر الأنوثة/ امرأة مؤلهة تستتر، عشقها لا ينضب/ أنا من شذرات النور أتيت، على صهوة الريح اعتليت" هذه الجمل الشعرية وغيرها التي تقرر حضور الذات تبديها الشاعرة دائما كمحطات للتوقف الأنوي الذي تختبر فيه حضورها ثم تتقدم لحضور الآخر، وتنتشر في النصوص كذلك دلالات الجسد، والعري، والشبق، والظل والضوء، والغياب والتجلي، والرقص والسكون. &الشاعرة تنسج دائما وعي الكلمات:
فوق البحيرة
أنا.. أنت
وطائر البجع .. نرقص في ثمالة
بين الريح والسماء
أقدامنا لا تلامس الماء
الماء عتيق
ونحن من زئبق وهواء
نطير.&
ومع هذه الرسائل لا تنسى الشاعرة أن تعبر عن مكنون الأنثى:
كما أنثى
تحس جدل الخلاخيل ( ص 36)&
مكنونات الأنثى عند سناء البنا هي مكنونات إنسانية في المحل الأول، إنها حين تتحد مع الآخر وتحل فيه تعي تماما أن هذا الحلول هو حلول روحي، ربما يحضر الجسد بكثرة، كنوع من الملامسة الحسية ، لكن الجوهر هو ما تبتكره الشاعرة وتركز عليه اتساقا مع وعيها الصوفي داخل النص.&
تجليات الحب:
الحب لا يفارق المشاهد النصية لدى سناء البنا، بل يمكن القول: إن "مولانا" الذي نؤوله من خلال النصوص هو الآخر، العاشق، الآخر الرجل، الآخر الذي يتلبس جلال الدين الرومي . هو آخر هويته الروح، وملامحه الغياب.&
إنه آخر مثالي مبتكر من لدن الشاعرة، تتمثل فيه فيوضات العشق، وبراهين الوجد، وآيات الاشتياق.&
ومن هنا فإن معظم نصوص الديوان تتوجه لهذا الآخر، تستقصيه وتشارفه وتمارس معه وجد الحب ، تقول الشاعرة:
أدورُ في مدارات النفس بين أذرع متصوف
وأبتهل لأصابعه تدغدغ حواسي
...
مازالت ظلالكَ تطوفُ هنا
في كل الأمكنة
فوق رعشات شرشف السماء
فوق الجدران
الظل لا يُهزم مهما اغتالته الأيام
بين الظل والغياب بقايا
ما للرجع غير الصدى
ما للشوق نهاية
حتى جوعك
مازال يتعمشق هنا فوق جسدي ! / ص 33&
&
الآخر، المتصوف غالبا، بفعل تأثير حضور الرومي حاضر في كل الأمكنة، يستجلب مواقفه ووقائعه، فيما تستدعي الشاعرة ذكريات الأنا في هذه الطقوس التي يتماهى فيها الحب بالتصوف، محددة بعض الإضاءات الدلالية الضدية التي تسعى لمعنى مختلف في دلالات مثل : الظل والغياب، الرجع والصدى النهاية والشوق:
اختلستُ من نورك ظله
آوي إليه كلما استعر التوق
يا حبيبا يتناءى في النسيان
كيف ألقاك مقدار طيف؟
مازال بعض الوقت بعد الألِفِ
أشاطرك الخفاء
تنادمني الطواف. / ص 132&
ولأن الموت يرتبط بالزمن، كلاهما انتصار على لحظة الحضور، الموت بالتغييب والتلاشي، والزمن بالهرم والكبر تشكل مسألة الزمن هاجسا دلاليا رحبا لدى سناء البنا:" أحفر الزمن الخالد في جدلية الزوال" ص 41&
لا تقف الشاعرة عند حدود المرئي. ثمة جدل بين المرئي واللا مرئي، وهذا الجدل تحفزه هذه الرؤية / الرؤيا الصوفية للعالم التي ينبجس من تجليها كينونات تصويرية مختلفة عما نعايشه واقعا. إنها تركز على الحدس، على ذهنية التخييل، على اتشاح الأنا بشفافية مطلقة. الأنا تتماهى وتذوب هناك لا هناك. تفتش عن حضورها وغيابها معا، وتنقب في مختلف حالاتها بعيدا عن منطقة الأشياء ، سببيتها، أو تراتبها العقلي.&
ولذا فإننا نعثر على الكثير من التعبيرات والصور الموغلة بالمطلق، وبالجوهر، ومنها :&
- يا أيها المتسلق
اختصر الأبد والسرمد
وتبرأ من كل ماء وهواء.
&
- اغتسل يا ريح
أنهار السماء تمتثل
- أقصد بحارك بحثا عني
أجد العمق يطاولني في أقفاص المجهول
&
- هاتِني قلبَكَ قاربًا هيوليّا
أبحر بي إلى سكرة في خمرتك
ارفعني كأسا مقدسة نحو التجلي
لنصلي في أقانيم الحرف لغات الروح والجسد
هذا الإيغال قد يقود الشاعرة إلى جملة من الصور والمعاني المدهشة، التي يجمعها كذلك رؤية مغامرة مختلفة عن الأجواء الرومانسية التي قد تطل منها القصيدة النسوية. ثمة شاعرة تتحدى عوالمها، فيما تتحدى واقعها أيضا ، تبتكره، تغيره، تسخر منه أحيانا. لكن الانتصار الأخير لكلماتها يتبدى في هذا التعالي على قبح الواقع وماديته. الروح جوهر كتابة عند سناء البنا.&
الذات في الكتابة:
إن التفتح الشعري الذي تبديه الشاعرة سناء البنا لا يتجلى فحسب في استعارة هذا الفضاء الصوفي لتعبر فيه عن مواجيدها الشعرية، أو لتستقطر عبره رؤيتها التي تتماس مع الغيبي المطلق. ولكنه تفتح يرنو بالأساس من ذاتها الشعرية سعيا لخلاصها من قبح الواقع أولا، وسعيا لاستشراف نماذج متعددة من الفرح بالعالم الآخر، العالم الذي ترتد فيه النفس لبراءتها، وتتأمل في أحوالها الحقيقية التي قد يغطي عليها أحيانا ركام الواقع وغباره.&
إن سناء البنا بمثل هذا الصنيع تقترب من الجوهر الإنساني في علاقاته التي يحددها، وفي قيمه الفطرية التي تبتعد عن التصنع.&
ولذا فإن سناء البنا تتحدث عن الحب ومواجيده، وعن الوطن وطاقاته، وعن المكان وتفاصيله الأخرى العالقة بالذاكرة أو تلك التي تتجلى هناك في التوق الأبعد للحلم بأمكنة أخرى ولحظات جديدة مغايرة.&
لنقل : إن سناء البنا بهذا الصنيع الشعري لا تفتعل مساحتها الجوانية الجوهرية، ولكنها تخلقها من جديد، تعيد تهذيبها بهذا الفضاء، وإعادتها لطبيعتها الحيوية الأكثر تشوفا واستشرافا.&
&
التعليقات