كتابة / أحمد فاضل
&
نادرا ما نجد شاعراً لا يفكر بتاريخه الشفوي بعد انهيار منظومة القيم التي كان يؤمن بها وحلم يومها أنها أصبحت دستوره الذي ينام ويصحو عليه ، والكثير من الشعراء أفنوا أعمارهم يسألون سؤالا واحدا :
- متى يكون لنا بيت فيه معنى لحياتنا ؟
هذا المعنى وجدت له تفسيرا عند الشاعر الكبير أدونيس الذي كان قد كتب قصيدة عن الوطن يصفه بصفات مختلفة ، مرة بمثابة الأب ، الحجر ، المنزل ، الطفل ، الوجوه ، الشوارع ، هذه كلها وطني – قالها الشاعر في قصيدته – وليست دمشق وحدها ، فالبنية الجمالية المبنية على الخيال أوعزت للشاعر أن يكون المنزل وطن والقيم التي تُعلق على هذا المفهوم تعتمد كثيرا على شدة الشعور أو على الذكرى وأكثر من ذلك بكثير على قوة التعبير ، الصورة الشعرية ، الإيقاع الموسيقي للكلمة وعلاقتها الهيكلية بين أجزاء القصيدة وبالتالي قد يكون الشاعر أراد من بيته أن يكون طفلا أو حجرا أو منفى بلا مأوى وهذا فقط وسيلة لتجسيد فكرته الشعرية ، شاعرنا هنا يريد شيئاً آخرا لذلك البيت ولتلك العودة &:
أريد أن أعود إلى بيتي
بلا ثياب ولا أمتعة
أريد أن أعود إلى بيتي
بلا ذكريات ولا أقنعة
بلا أخوة أو أمهات
بلا نساء ولا كتب قديمة .
هكذا ..
أعود وحيدا
إلى بيت ضيق
كتوابيت الصغار
أغلق الباب خلفي
وأنام بلا أحلام ولا كوابيس
كشيء لم يحدث أبدا
أريد أن أعود إلى بيتي الأول
بلا ذنوب ولا معجزات
لقد اكتشفت منذ تعرفت على الشاعر قبل سنة من الآن أنه شاعر كوني لا حدود تفصله حينما يريد أن يضع قدميه في المكان الذي اختاره &، لا أسلاك لا معرقلات مصطنعة ممن يضعونها أمام الدكة الحدودية ، شاعر لا يعترف إلا بحريته وحرية الإنسان أينما وجدت ، وهو حينما عاد لبلاده عاد محملا بآمال من حطم أغلال غربته ليتنفس هواؤه و يشرب من ماءه وليعود إلى مرابع صباه ، دراسته ، خشبة المسرح التي امتطاها وأعلن منها مسرحياته والمهرجانات التي قال فيها شعرا لا زالت حناجر الجمهور ترن مسامعه :
- أعد .. أعد ..
وعندما كان يقترب من بيته يصرخ :
أحدق في سقوفه التي تتساقط
منها العصافير الصغيرة والأفاعي
أريد أن أعود إلى حجرتي ..
على أرضها الرخوة الجرداء
قميص أزرق من مؤونة الشتاء
وعلى جدارها الموحش صورة
لرجل لم أقابله ذات يوم
ولكنه على كل حال كهل حزين
أريد أن أعود إلى بيتي البعيد
بلا خرائط أو رفاق
أخوض في وحول الطريق ،
مبللا برياح غريبة
ووجوه غابرة
وحين أصل
سوف أغلق الباب خلفي
وأنام بلا أحلام أو كوابيس
لا حظ كيف مسرحَ الشاعر عودته إلى بيته وكأنه يقوم مقام المونودراما ليقول بمفرده كل ذلك الشعر ، لم يشاركه فيه أحد سوى صدى صوته الذي بدا يتردد أمامه ، خلفه ، فوقه :
كشيء لم يحدث أبدا .
لم يعد بمستطاعي أن أعود
إلى بيتي القديم ..
لكنه وقف ، تحجر مشدوها :
اللصوص سرقوا المفاتيح
وسوف اقضي ليليّ في العراء ،
في الكوابيس أو الأحلام
وأنا لا أريد أن أعيش
مرة أخرى
في الأحلام والكوابيس
لأنها تعيدني إلى حياتي ..
حياتي التي ضاعت
بلا سبب وجيه .
سأعود إلى السجن
أو إلى الحديقة العامة
في ساحة الأندلس ..
هذا المشهد وحده يكفي أن نتعرف حجم المأساة التي يعاني منها الشاعر وهو يعود إلى بيته ، وطنه والذي انتهى وسط جلجلة الأحلام والكوابيس التي هي ليست سوى انعكاس شاحب للحياة المؤلمة التي يعيشها:
ولكنني أريد أن أعود إلى بيتي ..
سرق اللصوص مفاتيحه في النهار
وتركوني وحيدا أمام المارة ،
حقيبتي معي مليئة بثياب قديمة .
ما نفع هذه المفاتيح إذن ؟
لبيت قديم بلا أشجار ولا امرأة
أو كتب قديمة ؟
لا أريد أن أعود إلى بيتي القديم
لا مفاتيح عندي ولا أخوة
أو أمهات ..
الإحساس بالغربة لمن سكن المنافي أمر طبيعي ، لكن المحزن هنا هو بقاؤه فيها حتى وهو يعود لبيته ما يجعله رافضا لتلك العودة ، ولأن بيت الشعراء هو واحد سواء أكان في الشرق أم الغرب فإن الحزن المعلق على أبوابه كثيرا ما أشعرنا أنهم في الهم واحد ، وللشاعرة التايوانية يو Guangzhong نفس الأسباب التي دعتها أن تقول في قصيدتها "Homesickness &" الحنين إلى الوطن :
&In my childhood
Homesickness was a small stamp
I was here , and my mother was over there
When I grew up
Homesickness was a small tomb
With me outside, and my mother inside
But now
Homesickness is a shallow strait
I am on this side, and the mainland is on the other side
في طفولتي
كان الحنين إلى الوطن طابع صغير
كنت هنا ، وكانت والدتي هناك
عندما كبرت
كان الحنين إلى الوطن مقبرة صغيرة
معي خارج ، وأمي في الداخل
لكن الآن
الحنين إلى الوطن هو المضيق الضحل
أنا في هذا الجانب ، والبر الرئيسي على الجانب الآخر
صلاح حسن له كل مبرراته حينما يرفض العودة إلى بيته القديم فهو لا يساوم على دستوره الذي خطه ألماً ، غربةً ، نفوق ذات اليد :
لا أريد أن أعود إلى بيتي القديم
لا مفاتيح عندي ولا أخوة
أو أمهات ..
لا نساء عندي ولا رفاق
لا خرائط ولا وجوه غابرة
ما نفع هذه المفاتيح ؟
إنها لبيت قديم
لم يعد صالحا للأحلام ولا للكوابيس ..
لن أستطيع بعد الآن
أن أغلق الباب خلفي ،
لن أستطيع أن أنام ،
لأنني سوف أبقى
بلا كوابيس أو أحلام .
&
&
الشاعر خط على باب بيته هذا التاريخ 27 – 5 – 2016 وهو اليوم الذي ودعه فيه عائدا نحو غربته الطويلة التي لا تريد أن تنتهي لأن الخيط الذي يربطه بها مع بيته القديم خيط واه وأن " أوهن البيوت لبيت العنكبوت "&