&
&
كان ذلك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، الفترة التي كان فيها من حق الرجال، والرجال فقط، تلقي تدريب في مجالات الرسم والنحت والفنون بشكل عام في مدارس الفنون الجميلة في أوروبا، عندما تجرأت امرأة اسمها اليزابيث لويز فيجيه لوبران على كسر كل القيود. كانت تتمتع بموهبة فذة وبثقة عالية بنفسها جعلت منها أول امرأة فنانة تحصل على شهرة عالمية سمحت لها برسم أعضاء الأسر المالكة في مختلف أنحاء أوروبا، إضافة إلى النبلاء وأفراد النخبة، ولكن ليس هذا فحسب بل ومقابل أجور أعلى من أجور زملائها الذكور أيضا.&
ومع ذلك، لم تحصل فيجيه لوبران على اعتراف ورضا المدافعين عن حقوق المرأة عقودا طويلة بعد وفاتها، إذ انتقدتها مؤرخة الفن غريزيلدا بولوك لأنها كانت فنانة وسيدة مجتمع في الوقت نفسه، كما لو أن الجمع بين الإثنين جريمة، فيما اعتبرتها سيمون دو بوفوار بمثابة خائنة للنساء بسبب مهارتها في تصوير ما أسمته ب "الأمومة المبتسمة" في لوحاتها.&
ومناسبة الحديث عن هذه الفنانة النادرة هو قيام الغاليري الوطني الكندي بتخصيص معرض شامل لها يشارك في الإشراف عليه نائب مدير الغاليري بول لانغ ومن شأن هذا المعرض أن يقدم صورة مختلفة عن لوبران من خلال لوحات لم تعرض في السابق على الإطلاق علما أن هذا المعرض كان في استضافة متحف المتروبوليتان في نيويورك قبل انتقاله إلى اوتاوا. &&
ونعود إلى هذه الرسامة التي تحدت معاصريها وتفوقت عليهم في بعض الجوانب والتي عاشت حياة لم تكن سهلة تماما. كان والدها فنانا ناجحا وكان هو من علم ابنته الرسم ولكن الموت سرقه منها وهي في سن الثانية عشرة حيث واصلت التدرب على الرسم لوحدها لاسيما من خلال العمل في مجال نسخ مجموعات فنية عامة وخاصة في أنحاء مختلفة من باريس. وعندما تزوجت والدتها رجلا لم تستطع أن تطيقه، غادرت منزل أمها وتزوجت من تاجر أعمال فنية معروف في ذلك الوقت اسمه جون باتيست بيير لوبران غير أنها سرعان ما صدمت به بعد اكتشافها أنه كان مقامرا - راح يستولي على ما تكسبه - وأنه كان أيضا زير نساء. ومع ذلك استمر الزواج وأنجبت أليزابيث لويز فتاة اسمها جولي رسمت لوبران صورتها بشكل متكرر وبحب ووله كبيرين. & &
من أهم أعمال لوبران التي تظهر فيها ابنتها لوحة "جولي لوبران تنظر في المرآة" (1786) وتظهر فيها فتاة تحمل مرآة صغيرة ونرى انعكاس وجهها فيها. وما يميز هذه اللوحة أن في إمكان المشاهد تلمس الحب والشغف اللذين رافقا حركات ريشة الفنانة فيها وهو ما لاحظته وأعجبت به لاحقا ماري انطوانيت، ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر.&
كانت فيجيه لوبران في الثانية والعشرين من العمر فقط عندما رسمت ملكة فرنسا حيث جلست الأخيرة لتنجز لها الفنانة أكثر من 30 لوحة على مدى ست سنوات. إحدى اللوحات تحمل عنوان "ماري انطوانيت وأطفالها" (1787)، التي التقطت فيها بمهارة روح الأمومة لدى الملكة دون أن تسقط في فخ التفاهة.
ولكن عبقرية لوبران لم تقتصر فقط على ترجمة مشاعر الأمومة وحب الطفولة الى خطوط وألوان إذ يتضمن المعرض ايضا لوحة رسمتها في عام 1784 لشارل الكسندر دو كالون، المراقب المالي العام في فرنسا وكان يتمتع بسلطة واسعة جعلته الرجل الثاني في البلاد بعد الملك لويس السادس عشر. ويظهر دو كالون في اللوحة وهو يرتدي زيه الرسمي ويجلس الى مكتبه حاملا رسالة للملك. وتضيف فيجيه لوبران الى هذه الصورة شيئا من الحس الإنساني من خلال لمسة جميلة أظهرت فيها شيئا من البودرة على كتفه سقطت من شعره المستعار. ويقول لانغ "ولأن فيجيه لوبران كانت رسامة دربت نفسها بنفسها، جددت رسم اللوحة ووضعت فيها لمسات جمعت بين الجانبين الرسمي والشخصي وكان ذلك هو أهم ما ميز هذه الفنانة".&
وعند قيام الثورة الفرنسية غادرت فيجيه لوبران باريس وعملت خلال العقد اللاحق في إيطاليا والنمسا وروسيا وبرلين وإنكلترا وواصلت رسم رجال ونساء النخبة في أوروبا. وفي عام 1802 عادت إلى باريس بعد رفع اسمها من لائحة أعداء الحكومة في الخارج وعاشت هناك حتى سن السادسة والثمانين وتمتعت على مدى تلك السنوات بشهرة واسعة كفنانة. ومع ذلك، كان جمالها وسحر شخصيتها إضافة الى موهبتها أسبابا كانت وراء تعرضها إلى حملات إنتقاد قاسية داخل مجتمعها وإلى الغيرة وإلى أقاويل عن سوء أخلاقها إضافة إلى اتهامات بأن علاقات زوجها الواسعة كانت وراء نجاحها. وقال لانغ "كانت تتعرض الى التشهير والإزعاج وتشويه السمعة من جانب النساء والرجال على حد سواء".&
ورغم كل ذلك، يمكن نسيان هذه الأمور والتفاصيل الآن لأن ما تبقى من لوبران ليس ما قاله المجتمع عنها والعداء الذي واجهها به بل لوحات تعبر عن فن رائع وعن قدرات واضحة وعن تمكن من تقنية الرسم في زمن كان الرجال يعتلون أعلى المنصات فيما تجلس النساء في مقاعد الحياة الخلفية.