تهدف السلسلة الجديدة "شرفات" المتخصصة في الدراسات الإنسانية، التي أطلقتها وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية، إلى نشر الأبحاث ذات الأبعاد التحليلية والنقدية؛ لأهميتها في إعادة بناء المجتمعات العربية، وكذلك تشكيل الوعي العربي من خلال مناقشة الظواهر المعاصرة وقضايا الفكر والفلسفة والعلوم. تقوم السلسلة على استكتاب باحثين أو ترجمة دراسات نوعية مختارة.
وقد جاء العدد الأول بعنوان "الإبداع ونظام الحكم"، من تأليف د.ماجد موريس إبراهيم، طبيب علم النفس، وكاتب له العديد من الكتب والمقالات العلمية المنشورة، ويناقش إشكالية علاقة الإبداع بنظام الحكم، حيث يتناول د.موريس مفهوم الإبداع أولًا وآلياته النفسية، واقتصاديات الإبداع والعلاقة بينها وبين السياسة، وأخيرًا يعرض لعلاقة الإبداع بفلسفة نظم الحكم المختلفة.
وأوضح د.موريس في عرضه لمفهوم الابداع وآلياته أن منذ ظهور الإنسان في صورته البدائية وحتى يومنا هذا لم تتوقف عجلة التطور والتحولات الرائعة. فالمجتمع في لحظة من اللحظات يتخلى عن التقليد ويبارح حالة السكون الاستاتيكية إلى حالة من الحركة الديناميكية، وهذا ببساطة هو الجوهر الحقيقي لعملية الحضارة التي هي في ذات الوقت جماع تراكمي لجهود الانسان.
فالإبداع في نظره، في صورته البسيطة أسلوب للحياة تتميز فيه قيم الحرية والجمال والاختيار والمبادرة والابتكار، والابداع على مستوى الحياة الشخصية محفز على أن ينصت الفرد إلى طموحاته ويتبعها ويسعى في اثارها، ومحفز ايضًا على أن يتصالح الانسان مع نفسه، ويتم الابداع الشخصي بعد ذلك في خلفية الانتماء للمكان والبيئة وما يطرحانه من آليات ومعطيات تسمح بظهور الأفكار والاقتراحات.
تُعد العملية الإبداعية شكلاً من أشكال النشاط العقلي المركب الذي يهدف الشخص من ورائه إلى أن يصل إلى صورة جديدة من التفكير اعتمادًا على خبرات وعناصر سابقة محددة. إنه قدرة على التفكير في نسق متسع منفتح بحيث يتم إعادة تشكيل عناصر الخبرة في أشكال جديدة سواء كانت أدبًا أو فنًّا أو علمًا. الإبداع هو نشاط شامل للشخصية يسعى إلى توسيع نطاق الخبرة الإنسانية إما بالمتعة الجمالية كما في الفن أو بفهم الطبيعة كما هي الحال في العلم.
والإبداع ظاهرة حقيقية واقعية إنجازية يستحيل إنكارها، ولكنها في الوقت نفسه ليست كغيرها من الظواهر الطبيعة ولا حتى كغيرها من الظواهر النفسية الأخرى التي يمكن تحديدها ودراستها بحسب الأصول العلمية وطرق البحث التقليدية المتعارف عليها، ومن العقبات التي أخرت دراسة الإبداع دراسة علمية أن المفهوم الشرقي والقديم للإبداع يرجعه إلى ظواهر روحية وصوفية إلهامية.
ليس الإبداع مجرد تجاوز لحدود القهر (الذات والزمان والمكان) وليس هو مجرد تمرد عليها، ولكنه تجاوز للحدود يعقبه إنتاج موضوع إبداعي ملموس يفرض وجوده؛ ومن ثم يتيح للآخرين المعاصرين، وللآخرين اللاحقين &أن يختبروه ويتأملوه فيحفزهم على مواصلة الإبداع ويلهمهم بما لم يكن متصورًا أو متوقعًا أن إنتاج الموضوع الإبداعي الأول. وهكذا تتوالى وتتواصل حلقات الإبداع. إن الجهد العقلي والإرادي المحسوب والمقنن لازم لإتمام عملية الإبداع بعد بلوغ لحظة الإلهام والإشراق. يقول علماء الجمال: إن العبقرية الفنية ليست مجرد إلهام أو موهبة، ولكنها فعل مصير مستنير يحققه عقل ناضج واعد يملك زمام ملكاته على أكمل وجه.
الإبداع لا يتم في فراغ ولا يكتمل دون ناتج يطرح على المجتمع. فالإبداع ناشئ من المجتمع، ثائر عليه، راجع إليه. والعلاقة بين الإبداع والمجتمع علاقة ملغزة غير مباشرة تتسم بالتوتر في كثير من الأحيان وبالسلاسة في أندر الأحيان.
إننا نرى شخصية المبدع وسماته النفسية لا تخلوان من الغموض والإلغاز، لأنها تجمع داخلها مزيجًا من التناقض والانسجام، يعدد ميهاليMihaly &سمات المبدعين على النحو التالي؛ يتمتع المبدع بطاقة إبداعية كبرى بالرغم من أنه يمر بفترات كثيرة يغلب عليه فيها مظهر السكون والاسترخاء، بينما يبدو المبدع ساذجًا بسيطًا إلا أنه يتمتع بذكاء مميز، يتأرجح المبدع ما بين الفوضى والنظام، وما بين الالتزام بالمسئولية والتبرم منها.
&يوازن المبدع بين الخيال الجامح والواقعية الصرفة، يتنوع سلوكه فهو أحيانًا يكون منفتحًا منبسطًا وأحيانًا أخرى يكون انطوائيًّا منزويًا، ينظر المبدع إلى نفسه نظرات فيها الكثير من الفخر والاعتداد بالذات دون أن يفقد جوهرًا متواضعًا حقيقيًّا، المبدع في المجتمع غير ملتزم التزامًا صارمًا بالأدوار المرسومة مسبقًا فهو مثلاً أقل تقيدًا بأدوار النوع التقليدية (ما يتوقعه المجتمع من كلٍّ من الرجل والمرأة).
تطور مفهوم صناعة الإبداع إلى مفهوم اقتصاد الإبداع Creative economy، وهو مفهوم متطور مؤسس على إمكانية استغلال الإبداع لتحقيق النمو الاقتصادي بما يدعم الدخل القومي ويوفر المزيد من فرص العمل وفرص التصدير مع الحفاظ في الوقت نفسه على التنوع الثقافي ونمو العامل البشري والتفاعل الإيجابي بين العناصر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأهداف السياحية وحقوق الملكية الفكرية وآليات التكنولوجيا.
تتباين مواقف الحكومات وسياساتها من اقتصاد الإبداع بحسب ميولها أو موقعها على المحور الواصل بين قطبي اليمين المتطرف واليسار المتطرف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بحسب موقعها على المحور الواصل بين المحافظةConservatism &والتحرر Liberalism.
وعرض لعلاقة الإبداع بجوهر النظام الحاكم وليس بمظهره، إن جوهر أي من نظم الحكم بصرف النظر عن مسماه هو مدى التزامه بكلٍّ من الديمقراطية والعدل والمساواة، والدرجة التي يميل بها بين كل من الليبرالية والمحافظة، وموقعه بين اليمين واليسار، وأخيرًا مدى عمق وتغلغل الروح السلطوية &Authoritarianism &والقطعية Dogmatism.
ليس المعيار الوحيد لموقف الدولة من الإبداع هو موقفها من نشر الكتب في المعارض، أو جور مقص الرقيب على الفنون المعروضة على الشاشة الكبيرة والصغيرة، أو تدخل الأمن فيما تعرضه قاعات الفنون التشكيلية. &ولا نقيس موقف الدولة من الإبداع بما تقدمه من منح تفرغ أو بعثات للمبدعين.
كل هذا (على صحته) ليس وحده المعيار الوحيد الذي يقاس به موقف الدولة الديمقراطية من الإبداع. &إننا نقيس هذا الموقف بمعيار آخر ألا وهو مدى رعاية الدولة للتعليم الديمقراطي أو للتعليم الإبداعي الذي ينتج أفرادًا مبدعين ديمقراطيين. إن هذا المعيار الجديد لقياس الموقف من الديمقراطية ومن الإبداع في الوقت نفسه يتوازى مع انتقال في تحمل المسئولية تجاه الإبداع من أجهزة الدولة فقط إلى الأشخاص أيضًا.&
&