لندن:  أقيمت في القاعة الكبيرة (بروناي كليري) يوم الأربعاء المصادف للثامن من يوليو أداء لجلجامش بحضور كثيف ملأ القاعة الكبيرة كلها وبتفاعل كبير معها. بأداء رائع من "بن هاغارتي" مع "جونه برودي" كان العرض (الربة عشتار) في وادي الرافدين وهى ترمز للحياة الدنيا ( الواطئة) بكل نزقها واغراءاتها التي يستجيب لها الضعفاء وتناقضاتها لغير الحكماء ، بَلْ إنّ اسمَهَا نفسَهُ يوحي بهذه المكيدةِ، إذ لا تعني عشتارُ إلا لفظاً منحوتاً من العيشِ والشّترِ. والشّترُ في العربيةِ هو القطعُ، والشّاترُ القاطعُ، والمشتورُ الفاني الهالكُ. فهي إذن (عاش + شتر)، والنّاتجُ إمّا عاشَ مُنْقَطِعَاً أو انقطعَ عيشُهُ!.
ولمّا كانت عشتارُ هي الحياةُ ووظيفةُ الحياةِ هي الخلقَ والتكوينَ، فَلِمَ لا تتقدَّمُ بطلبٍ هو من جملةِ الصّلاحياتِ الممنوحةِ لها في خَلْقِ وتكوينِ (كائنٍ) بهيميٍّ متوحِّشٍ لِيقفَ مقابلَ جلجامشَ الذي اهانها برفضه ان يتخذها زوجة او خليلة؟
فالتّناقضُ طبيعتُهَا، والخَلْقُ وظيفتُهَا وكلُّ ما تحتاجُهُ هو (توقيعٌ) فقط من آنو على (المقترحِ).
لماذا تحتاجُ إلى هذا التّوقيعِ؟.. لأنَّ هناك قوىً أخرى لا تقدِرُ على التحكِّمِ فيها ما لم يوقِّعْ آنو من جملتِهَا (القَدَرُ) الذي لا يقوى حتى أشرسُ عبيدِهَا (الزّمانُ) على إخضاعِهِ ما لم يلوي آنو عُنُقَهُ!.
وأمّا المعنى العامُّ لذلك فهو (العدلُ)، إذ تقضي العدالةُ أن تعاقبَ الحياةُ الدّنيا أولئكَ الذين يريدون الاستعلاءَ عليها وتحقيرَهَا. أليستْ هي حياةٌ ومن حقوقها الأساسيِّةِ أن تخترعَ المخلوقاتِ؟ أو تسلبَ راحةَ من خَلَقَتْهُ؟.
فلتحاولَ إذن إخراجَ المخلوقاتِ الحقيرةِ القذرةِ المؤذيةِ التي تؤذي الرّجالَ الصّالحينَ لتعاقبَهُم على إهمالِهِم لها.
فلتطلبَ إذن أن يَخْلُقَ آنو لها (ثوراً)!، إذ لا يقابلُ الحكماءَ سوى الثيران، ثوراً يُزبدُ ويرعدُ… لا علاقةَ له بالمنطقِ المتّفقِ عليه بين العقلاء. وربّما تكون تلك المفردةُ هي الوحيدةُ الملائمةُ لوصفِ أعداءِ الصّالحينَ من الرّجالِ.
وتتّصِفُ المعادلةُ بأن تقوم القوّةُ العمياءُ بمواجهةِ الحكمةِ الواعيةِ. وهذا هو حقُّ عشتارَ.. ولكن لمَّا كان آنو حكيماً، بل أحكمُ الجميعِ فهو إذن يدرك أحقيَّةَ عشتارَ بهذا المطلبِ، ولكن هناك مشكلةً واحدةً فقط.
فإنَّ الثّيرانَ الهائجةَ تسبِّبُ منازعاتٍ وفتناَ وحروباً في النّهاية، وهي بذلك تستنزِفُ الطّاقاتِ، وهو أمرٌ يعرقِلُ مسيرةَ الحياةِ نفسِهَا.. أَوَ ليسَ من الحُمْقِ أن تقومَ عشتارَ بإهلاكِ نفسِهَا؟
يستخدم آنو هذه الورقةَ في محاولةٍ لا لِرَدِّ طلبِهَا، بل لإجراءِ تعديلٍ فيه يتضمَّنُ وضعَ شرطٍ أساسيٍّ.
ذلك أنّ الصّراعَ ليس مشكلةً بالنّسبةِ لآنو، بل يبدو أنّ الصّراعَ يخدمُ قضيّةَ آنو أصلاً ولكنْ بشرطِ أن لا يؤدّي إلى توقّفِ الحركةِ نهائيّاً.
فالفتنُ هي سبيلُهُ الوحيدُ لإفهامِ الكائناتِ أنّها عديمةُ القيمةِ بغيرِ آنو!.. قال آنو:
إذا أَردْتِ أنْ أفعلَ ما تريدينَ منِّي
فسوفِ تكونُ سبعُ سنينَ من القحطِ
فهل جمعتِ حبوباً للنّاسِ؟ وحشيشاً للدوَّابِ؟
لأنَّهُ إذا خَلَقَ ثوراً هائجاً ليواجَهَ جلجامشَ فسوف تحدِثُ فتنةٌ في المجتمعِ وصراعٌ يؤدّي إلى توقُّفٍ في المعايشِ. وإذن فواجبُ الحياةِ (عشتارَ) أنْ تقدِّمَ المُؤَنَ اللازمةَ لاستمرارِ العيشِ خلالَ فترةِ الصّراعِ.
ويبدو من هذا النصِّ بشكلٍ جليٍّ أنَّ آنو يرغبُ أو يشتهي إحداثَ الصّراعِ أصلاً فلا يحتاجُ إلى شيءٍ من الحثِّ، فهو لا يشترطُ للبدءِ فوراً أيَّ شيءٍ سوى ما يَسِدُّ الرّمقَ: حبوباً للنّاس وحشيشاً للدوَّاب!!.
فهذا يؤكِّدُ الفكرةَ الدّينيةَ العامّةَ من أنَّ الفِتَنَ مفيدةٌ
لقضيّةِ الإلهِ، إذ بها يتميَّزُ الفريقان:
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)
وما أسرعَ ما أجابتْ عشتارُ قائلةً إنَّ هذه الشروطَ متوفرةٌ وحسبُ الأصولِ: 
لقد جمعت حبوباً للنّاس
وحشيشاً للدوَّابِ
فإذا وَقَعَتْ سبعُ سنينَ من القحطِ
فقد جمعتُ أنا حبوباً للناسِ
وحشيشاً كاملَ النموِّ للدوَّاب
و…..
ويظهر أنَّها عَدَّدَتْ أشياءٍ إضافيةً أخرى خُرِمَتْ من النّصِّ. وتستمرُّ السطورُ المخرومةُ فلا ندري كيف تمَّ خَلْقُ الثورِ. لكنَّ أغلبَ الظنِّ أن الثيرانَ النائمةَ كثيرةٌ ومتوفِّرَةٌ ولا تحتاجُ إلى شيءٍ سوى التّحفيزِ.
فهي تفيقُ وتُحرِّكُ قرونَهَا حالما يستلِمُّ الحكماءُ دستَ الحُكْمِ.. أمَّا ما عدا ذلك فهي ملتهبةٌ (بينَ نثيلِهَا ومعتلفِهَا)، ذلكَ أنَّ الحكماءَ لا يسمحونَ لها بالنومِ المشروطِ بهذا الشّرطِ، فَليْسَ في دولةِ الحكماءِ ثيرانٌ تَنامُ ويأتيَهَا علفُهَا كلَّ يومٍ!.. وإذن فهياجُ الثيرانِ في دولةِ الحكماءِ أمرٌ لا مفرَّ منه حيثُ تهتاجُ وتُحرِّكُ قطعانَ الجماهيرِ المغفَّلةِ لتُقارعَ الحكماءَ.. وهذا ما حدَّثَتْنَا عنه الملحمةُ بعد ذلك.
فحينما يستقيمُ النصُّ للترجمةِ نفاجأُ بشخيرِ الثّورِ!.
وهذا الشّخيرً تعبيرُ عن الفتنةِ بقيادةِ الثورِ الذي يحرِّضُ الجماهيرَ المغفَّلةَ على الانقلابِ. فمن البديهي أنْ تَحْدِثَ خسائرٌ في النّفوسِ خلالَ هيجانِ الثّيرانِ:
… لأوروك….
..قَتَلَ في شخيرِهِ الأوّلِ مائةَ رَجُلٍ
ومائتي رَجُلٍ.. وثلاثمائة رَجُلٍ
….. رَجُلٍ
وَقَتَلَ في شخيرِهِ الثّاني مائةَ رَجُلٍ
ومائتي رَجُلٍ وثلاثمائة رَجُل
….وسط ….
وفي شخيرِهِ الثّالثِ قَفَزَ على أنكيدو وَصَدَّ أنكيدو هجومَهُ…
وَرَكَبَ أنكيدو على الثّورِ وأمسَكَ بقرنيهِ وَقَذَفَ الثّورُ الوحشيُّ رغوتَهُ بوجْهِ أنكيدو
إذن تقومُ الثيرانُ بإثارةِ الفِتَنِ واحدةً تِلْوَ الأخرى فتموتُ الأعدادُ الغفيرةُ المتصاعدةُ (عددياً) من الرّجالِ
وفي الشّخيرِ الثّالثِ الذي يصِلُ فيه إلى أنكيدو (الظهيرُ القويُّ لجلجامش) يُقرِّرُ المجابهةَ فَيَصِدُّ هجومَهُ ثمَّ يركبُ على الثورِ ممسكاً بقرنيهِ في رمزٍ آخرٍ من روائعِ رموزِ الملحمةِ.
ذلك أنَّ الحكمةَ هي ضالّةُ الرّجالِ الصّالحينَ، وحينما يريدونَ تهدئةَ الفتنةِ فليْسَ معنى ذلك أنَّهُم ضعفاءُ، فإذا اقتضى الأمرُ أنْ يركبوا الثورَ نفسَهُ ويوجِّهونَهُ من خلالِ (قرنيهِ) قدروا على ذلك.
لكنَّ الثورَ ألقى برغوتِهِ المزبدةِ بوجهِ أنكيدو. وتلك رموزٌ متواليةٌ تتصاعدٌُ متلاحمةً في مقاطعٍ متراصّةٍ عجيبةِ التكوين كما لو كانت من إلهامٍ سماويٍّ
فالزّبدُ والرّغوةُ إنّما هي تلك الأكاذيبُ والتُهَمُ الباطلةُ والوقائعُ الملفَّقَةُ
التي يقذِفُ بها العدوُّ الحاقدُ على الأولياءِ الصّالحينَ عندما يُصيبُهُم العجزُ عن المواجهةِ، إذ يجدون أنفسَهُم مَهْمَا فعلوا وكيفما فعلوا لا يقومونَ إلاَ بكشْفِ أنفسِهِم وتزكيةِ الذين عادوهم. وهي في النّهايةِ (رغوةٌ).. عبارةٌ عن فقاقيعٍ هوائيّةٍ تذهبُ هباءً لأنَّها صادرةٌ عن سَورةِ الحقدِ والحسدِ.
وليس إمساكُ أنكيدو بذيلِ الثورِ توطئةً لقتلِهِ بعد ذلك من قبلِ جلجامشَ إلاَّ إشارةً أخرى إلى قدرةِ الحكماء على جعلِ الثيرانِ تدورُ في موضِعِهَا وتتخبَّطُ في اتِّخاذِ قراراتِهَا وتَفقِدُ السيطرةَ على نفسِهَا فَضْلاً عن أنْ تكونَ لها سيطرةٌ على المجتمعِ.
وتمثِّلُ هذه اللحظةُ المرحلةَ الحاسمةَ من صراعِ الحكماءِ مع الطّاغوتِ، إذ لا يحتاجُ الحكماءُ إلى إثباتِ حقٍّ من خلالِ باطلٍ، لذلك تخلّى أنكيدو عن الإمساكِ بقرونِ الثورِ ونَزَلَ من على ظهرِهِ وأَمسَكَ بذيلِهِ مُمهِّداً لجلجامشَ حتى يضربَهُ بالسّيفِ بين قرنيهِ ليخورَ خورتَهُ الأخيرةَ، وكأنَّها استمرارٌ لتخبِّطهِ ودورانِهِ حولَ نفسِهِ الذي استبدَّ به طوالَ فترةِ تواجدِهِ في السّاحةِ أمامَ مرأى الجّماهيرِ!.
مَناحَةُ عَشْتَارَ عَلَى فَخْذِ الثورِ
ما الذي يَحْدِثُ في الفتنِ التي يختِلِقُهُا عبيدُ الدّنيا؟،.. الذي يحدثُ أنَّها تُهلِكُ الحرثَ والنّسلَ وتؤدِّي إلى انقطاعِ الأرزاقِ ويموتُ أناسٌ كثيرونَ، ولكنَّ الحياةَ ليست هي كائناً مجسّداً ينطِقُ مثلَنَا، وإنّما هي تلك الإراداتُ المجتمعةُ عندَ الإنسانِ معَ هذا النّظامِ الطّبيعيِّ النّاقصِ الذي ينتهي بالموتِ. هذه الإراداتُ تَهمِلُ ما حَصَلَ من مصائِبَ وتَنْسى الأبرياءَ الذين هَلَكوا في الفتنِ والمغفلينَ الذين داسَتْهم الأرجلُ، ولا يَبْقى في ذاكرتِهَا سوى شخوصِ الفتنِ، وهي لا تستطيعُ التّفريقَ بينهُمْ، إذ تختلطُ عليها الأسماءُ ويصبحُ الحكماءُ والثيرانُ على مستوىً واحدٍ من الذاكرةِ التاريخيةِ للجماهيرِ.
إنَّ عشتارَ تدركُ جيداً حُمْقَ عبيدِهَا، ولا تحتاجُ إلى مزيدِ عناءٍ لإدخالِ الثَّورِ من البابِ الواسعِ للتاريخِ حتّى لو فشلَ عسكرياً مع الحكيمِ جلجامشَ. كلُّ ما تحتاجُهَُ هو (سبباً للذكرى). فالجماهيرُ تُحِبُّ الرموزَ التاريخيةَ، ولا يمكِنُ أنْ تَنْسى بسرعةٍ أنَّ الثَّورَ قد قَتَلَهَا بخوارِهِ أو شخيرِهِ ما لم يحدثْ ربطٌ مأساويٌّ يجعلُ الثورَ هو ضحيَّةَ الجماهيرِ لا العكسَ!.
والجمهورُ بسلوكِهِ الجمعيِّ يشجِّعُ عشتارَ على خَلْطِ الأوراقِ معَ بعضِهَا البعضِ، ولذلكَ تستغلُّ عشتارُ أيَّةَ فرصةٍ تَسْنَحُ في هذا المضمارِ، حتّى لو كانتْ الفرصةَ خطأً ما أو حركةً جزئيةً من نفس الفتنةِ.
تَصعَدُ عشتارُ على أسوارِ أوروكَ بعدَ مقتلِ الثَّورِ موَلوِلَةً وتصبُّ اللعناتِ على جلجامشَ..
ويغضبُ أنكيدو فيخلعُ فخذَ الثَّورِ المقتولِ ويرمي به عشتارَ…
يَرمي بفخْذِ الثَّورِ الأيمنِ بوجْهِ عشتارَ!
فَيَا لَهَا من فُرصةٍ فريدةٍ لا تتكرَّرُ!
جَمَعَتْ عشتارُ (السّاقطاتِ) مِنْ كلِّ الأصنافِ وأقامَتْ المناحةَ على فَخْذِ الثَّورِ!
لا بدَّ لعشتارَ من أنْ تضعَ السُنَنَ والتّقاليدَ الاجتماعيةَ لخدمَةِ قضيَّتِهَا. فالمناحةُ إذا استمرَّتْ على هذا التقليدِ مدَّةً من الزّمنِ فستَجِدُ فيما بَعْدُ كلَّ المدينةِ وهي تبكي الثَّورَ وتترحَّمُ عليه بدلاً من أنْ تبكي نفسَهَا مِمَّا جرى لها من الثَّورِ!.
وهكذا استطاعَتْ عشتارُ أن تفوِّضَ حتّى الأخطاءَ لصالِحِهَا. ويرمي النصُّ هنا إلى أنَّ الشرَّ لا تحِدُّهُ حدودٌ أخلاقيةٌ معيّنةٌ بخلافِ الخيرِ، إذ ليسَ مِنْ معنىً للشرِّ سوى غيابِ الأخلاقِ. فهذه الأفعالُ جزءٌ من طبيعةِ الشرِّ، وهو ما يتَّفِقُ مع وصفِ (شوبنهور) المتشائمِ للحياةِ على أنَّها شرٌّ، ولكنَّهُ يختلفُ عنه من ناحيةٍ جوهريةٍ هي أنَّ للحياةِ وجهينِ في الملحمةِ. لذلكَ فإنَّ البطولةَ والفشلَ، والحقَّ والباطلَ، والخلودَ والفناءَ، وكلَّ المتناقضاتِ الأخرى تسيرُ جنباً إلى جنبٍ مع بعضِهَا البعضِ، وهي معروضةٌ لاختيارِ الإنسانِ لِمَا يَشَاءُ منْهَا:
جَمَعَتْ عشتارُ المترّهباتِ والبغايا
والعاهراتِ وأقامتْ المناحةَ..
على فَخْذِ الثَّورِ السّماويِّ الأيمنِ
فلاحِظْ دِقَّةَ النّصِّ في اختيارِ لفظ (المترهِّباتِ) لا (الراهبات)، لأنَّ المترهباتِ مزيّفاتٌ، إنَّهُنَّ بغايا بأزياءِ الرّاهباتِ من أجلِ أنْ يأتيَ الجمهورُ المغفَّلُ وراءَهُنَّ في تقليدٍ جديدٍ هو البُكاءُ على الثَّوْرِ، جاعلةً مِنْهُ بطلاً تاريخياً.
فماذا يفعلُ جلجامشُ بالمقابلِ؟،.. لقد أَمَّنَ من جانبِهِ العنصرَ التاريخيَّ أيضاً:
دَعَا جلجامشُ الصُنَّاعَ ـ صُنَّاعَ السِّلاحِ كُلَّهُم
وأعْجَبَ الصُنَّاعُ مِنْ كِبْرِ قُرْنَيِّ الثَّورِ وثِخْنِهِمَا
وكانَ وزنُ قوالِبِهِ المصبوبةِ ثلاثينَ مَنَّاً
وغلافُ كلٍّ مِنْهُمَا بِثِخْنِ إصبعينِ
وسِعَةُ كلٍّ مِنْهُمَا ستَّةَ كوراتٍ مِنَ السِمْنِ
أَخَذَهَا جلجامشُ وعَلَّقَهَا في غُرفَةِ نومِهِ المَلَكيةِ
وغَسَلَ البَطَلانِ أيديَهُمَا في الفُراتِ الطّاهِرِ
وعانقا بعضَهُمَا سائرينِ في أسواقِ (دروبِ) أوروكَ
وبعد عدَّةِ سطورٍ مخرومةٍ:
عشتارُ لم تَجِدْ مَنْ يواسيهَا ويُفْرِحُ قلبَهَا
غَسَلا أيديهُمَا بماءِ الفراتِ الطّاهرِ ليزيلا ما عَلَقَ بِهِمَا من أقذارِ الثَّورِ وفتنتِهِ.
إذا كانتْ عشتارُ قد نَصَبَتْ مناحةً لجعلِ الثَّورِ بطلاً تاريخياً، فإنَّ جلجامشَ جَلَبَ الصُنَّاعَ ليعملوا له نموذجاً (ماكيتاً) لقرني الثَّورِ، ثم يضعُ هذا النّموذجَ في غرفتِهِ الملكيةِ.
وهكذا يُودِعُ جلجامشُ في ذاكرةِ التاريخِ الأدلَّةَ الماديةَ على جريمةِ الثَّورِ لا مجرَّدِ الادعاءِ بأنَّهُ (قُتِلَ مظلوماً) -;- كما تدَّعي عشتار‍ُ.
فالصُنَّاعُ أنفسُهُم عَجِبوا مِنْ ثِخْنِ قرنيهِ!.. تلك القرونُ التي هي رمزٌ لقوَّتِهِ التدميريةِ، لأنَّ حاملَهَا ثورٌ لا غيرَ.‍ وهي القوَّةُ التدميريةُ التي ينطوي عليها المُتَصدِّي للقيادةِ وهو غيرُ كفء لها. فتلكَ رموزٌ أخرى داخليةٌ تعملُ بانسجامٍ تامٍّ مع بعضِهَا البعضِ داخل النصِّ.
ومن هنا لا بدَّ للمتصدِّي من أنْ يُغَلِّفَ قرونَهُ المدمِّرةِ بطلاءٍ سميكٍ من الذهبِ بثِخْنِ إصبعينِ ليخفيَّ ما انطوَتْ عليه قرونُهُ من قوَّةٍ غاشمةٍ.
ومن هنا تبدو الملحمةُ وكأنَّهَا لا تريدُ أن تُعْذِرَ الإنسانَ من أيَّةِ جهةٍ مُحتَمَلَةٍ، وتُثْبِتُ الخَطَأَ أو المغالطَةَ التي تقولُ إنَّ التاريخَ مزوَّرٌ وإنَّ الجماعةَ الإنسانيةَ لا تَقْدِرُ على التمييزِ بين الخطأِ والصّوابِ، ولا يمكنُهَا الانتفاعُ من التاريخِ المزوَّرِ.. إنَّها تقولُ ما خلاصتُهُ :( إنَّ الحُكْمَ بتزويرِ التاريخِ هو دليلٌ على عَدَمِ تزويرهِ!.‍ فَمِنْ أينَ يَعْلَمُ القائلُ أنَّ التاريخَ مزوَّرٌ ما لم يكنْ لَهُ عِلْمٌ بما هو حقيقيٌّ مِنْهُ وما هو مزوَّرٌ؟).
وبِكَلِمَةٍ أخرى تؤكِّدُ الملحمَةُ على هذه المَقولةِ: (إنَّ الحَقَّ بَيِّنٌ والباطلَ بَيِّنٌ وكلُّ امرئٍ اختارَ أَحَدَهُمَا فهو المسئولُ عن اختيارِهِ).
الرَمْزيَّةُ في شَخْصِيَّةِ أنْكِيْدُو
أليسَ من الضروري أنْ يكونَ هناك رمزٌ آخرٌ مُقابلَ الثَّورِ السّماوي.. الثَّورِ الذي يمثِّلُ القيادةَ العمياءَ المعارِضَةَ لجلجامشَ الحكيمَ؟.
لكنَّ الحكماءَ لا يفكِّرونَ (بِسَبَبٍ مِنْ حكمَتِهِم) في أنْ يَجبِروا الناسَ على متابعتِهِم ولذلك فَهُمْ يُريدونَ الأتباعَ الذينَ يَخْلِصُونَ للحقِّ والحكمةِ لا لَهُمْ خاصَّةً. ومن هنا فإنَّهُم لا يحتاجونَ إلى أحدٍ ليثني عليهِمْ مطلقاً… إنَّهُم يحتقرونَ المُدَّاحَ في داخلِ أنفسِهِم ويرغبونَ في أنْ (يَحِثُّوا في وجوهِ المَدَّاحينَ التُّرابَ).
إنَّ مدحَهُم يَكْمِنُ في امتداحِ الفضيلةِ والحكمةِ، ولذلك فإنَّ ما يبدو مشكلةً لغيرِهِم لا يُعَدُّ مشكلةً بالنسبةِ لهُمْ. فالقاعدةُ العامَّةُ: (إنَّ الحُكمَاءَ غُربَاءٌ في مجتمَعِهِم)، وهُمْ أوَّلُ النّاسِ إدراكاً لهذه القاعدةِ. ولكنْ إذا جاءَتِ (الأقْدارُ) بأخٍ ناصِحٍ ومُتابعٍ للحكيمِ فسيكونُ هو حكيمٌ محظوظٌ جداً.
إذنْ (فالمغتاظونَ) من جلجامشَ في مملكتِهِ كثيرونَ، وقد حَاولوا التّباكي أمامَ الأربابِ لتُخْلِقَ لَهُمْ وحشاً برِّياً يواجُهُ جلجامشَ القويَّ. وكانَ فَشَلُ محاولاتِهِم تلك هو الذي جَعَلَ (ربَّتَهُم) عشتارَ تأخذُ هذه المهمَّةِ على عاتِقِها حيثُ تمَّ خَلْقُ الثَّورِ السّماويِّ بفضلِ مساعيهَا.. إذ أليسَ المغتاظونَ مِنَ الحكمةِ هُم في النّهايةِ عبيدَ عشتارَ ويتوجَّبُ عليها دونَ سِواهَا الدّفاعُ عن مصالحِهِم؟!.
ولكن ما الذي أنتجَتْهُ محاولاتُ (الرِّجالِ) المعارضِينَ لجلجامشَ؟ وكيف فَشلَتْ محاولاتُهُم؟
الواقعُ.. إنَّ مطلبَهُم قد تمَّ تنفيذٌهُ وقد تمَّ خَلْقُ وحشٍ بريٍّ بالفعلِ!
ولكنَّ هذا الوحشَ الذي أُوكِلَتْ مُهمَّةُ تكوينِهِ إلى (أورورو) ينتهي به المُطافُ إلى أنْ يكونَ صديقاً حميماً لجلجامشَ وساعداً آخراً مُضافاً لساعديهِ القويتينِ، وليكونَ هو أَوْفَى الجميعِ له في النُصْحِ وفي القتالِ وفي الحِلِّ والترحالِ.. يتقدَّمُ أمامَهُ في المخاطِرِ ويفديهِ بنفسِهِ..
تلك واحدةٌ من الجوانبِ البديعةِ في الملحمةِ، والعميقةِ الغَورِ في الحكمةِ الإلهيةِ التي يَنْدِرُ وجودُهَا بِمْثْلِ هذا الانسجامِ في التفاصيلِ في أيِّ نوعٍ من أنواعِ الأدبِ.
إنَّ الملحمةَ في قصَّةِ أنكيدو تَطْرَحُ نظريةً للمعرفةِ لا علاقةَ لها بكلِّ ما نعرفُهُ من نظرياتٍ لها في الفلسفةِ… وتَطْرَحُ بجوارِهَا نظريةً للأخلاقِ مُنتَزَعَةٍ منها. فالحكمةُ في الملحمةِ تظهرُ وهي غيرُ مرتبطةٍ بالحضارةِ، والتوحُّشُ غيرُ مُلازمٍ للبريةِ خلافاً لما هو سائِدٌ عند أهلِ التنظيرِ وأهلِ الفِكْرِ 
فالتوحُّشُ والتحضُّرُ في نَظَرِ الملحمةِ هما صفتانِ خارجيتانِ لا تَنُمَّان عن حقيقةِ الذَّاتِ ولا تَمِتَان لجوهرِهَا بصلةٍ تُذْكَرُ. فالذَّاتُ المتوحِشةُ قد تكونُ موجودةً في قَلْبِ الحضَارةِ (داخلِ أسوارِ أوروك)، والذَّاتُ المتحضِّرةُ قد تكونُ في البريةِ حيثُ الوحوشِ من أسودٍ وفهودٍ ونمورٍ. وهذا هو جوهرُهَا ولا علاقةَ له بمظهرِهَا الخارجيِّ الذي هو بخلافِ ذلك تماماً.
لقد ظَهَرَ من قَلْبِ الحضارةِ (الثَّورُ) الذي قَتَلَ بخوارِهِ المئاتِ، بينما ظَهَرَ من البرية (أنكيدو) الشّبيهُ بجلجامشَ في الحكمةِ.
ولمْ تكتفِ الملحمةُ عندَ حدودِ التناقضِ بينَ التوحّشِ والتحضّرِ الخارجيِّ مع حقيقةِ الذَّاتِ، بل أوحَتْ أو صرَّحَتْ بالمطابقةِ بين المظهرِ والجوهرِ أيضاً لِمَنْ يَنْظُرُ إلى السلوكِ بعينِ البصيرةِ كمجموعٍ لا كأجزاءٍ منفصلةٍ عن بعضِهَا البعض
فأنكيدو يَكْسو جسمَهُ الشَّعْرُ ويرتدي جلود الحيونات ويأكلُ العُشَبَ.. وكلُّ هذا مظهرٌ من مظاهِرِ التوحُّشِ. ولكنْ انظُرْ إلى سلوكِهِ الخارجيِّ الآخرِ، فهو يتدافعُ مع الوحوشِ على الماءِ ويحميْهَا من الصيَّادِ إذ مَلأ أوجارَهُ وقَطَعَ شِباكَهُ التي نَصَبَها.. إذنْ كانَ أنكيدو في البريةَِ متحضِّراً لأنَّهُ يُدافعُ عن الحيواناتِ، وكانَ متحضِّراً في سلوكِهِ الخارجيِّ أيضاً ولم يظهَرْ عليه التوحُّشُ الخارجيُّ إلاَّ بعدَ إن اتَّصلَ به أهلُ المدينةِ وملئوا رأسَهُ بمعلوماتٍ خاطئةٍ جعلَتْهُ يسمحُ للصيَّادِ بِقَتْلِ حيواناتِ بريةِ لينتهي العرض حيث إعجاب الجمهور وانبهاره وتصفيقه الحار جدا للأداء الرائع.‍‍